الكيان، المتصرفية، الدولة تحت الانتداب، لبنان الكبير، الجمهورية الثانية، وهي كلها تسميات أطلقت لوصف لبنان في الأعوام المائتين الماضية.
تسويات وحروب واتفاقات دولية وسفراء وقناصل ودور خاص وموقع متميز وأم حنون وجزء من محور وشقيق وصديق وأوصاف كثيرة أخرى استخدمت لتحديد ماهية لبنان عبر عقود مديدة من تاريخ منطقتنا وموقع لبنان فيها.
المكونات والطوائف والعيش المشترك والتعايش والسلم الأهلي والميثاقية والمشرقية والديموقراطية التوافقية والنأي بالنفس وغيرها من المصطلحات والمحاولات المبتدعة لتحديد “التركيبة” التي تنقسم فيها “شعوب” لبنان والمنطقة.
هذا هو لبنان الذي لم يتمكن أبناؤه من كتابة تاريخ موحد له عبر السنوات، إرضاء لبعضهم البعض وليتوزعوا من خلاله الحصص ولتكن فيه مناصفة ومثالثة وتمثيل للأقليات والفئات التي انقسمت على أساسها النخب في شتى تلك المراحل.
غابت الطبقات الاجتماعية الموجودة فيه على أساس اقتصادي ومعيشي، وانكفأت النخب الأكاديمية والمالية والصناعية والمهنية هندسة وطباً وقانوناً، والإبداعية منها فناً وثقافة وصحافة، والطبقة الكادحة زراعة وإنتاجاً وحرفاً. كل منهم نجح على المستوى الفردي والخاص في لبنان دون أن يشكلوا سوياً حالة سياسية فيه، كما نجحوا خارجه واندمجوا في مجتمعات الاغتراب التي عاشوا فيها.
هذا هو لبنان الذي عاش انقسامات أوصلته مرة تلو الأخرى إلى طريق مسدودة تناحر شعبه بمرارة لاجتيازها في كل مرة، فعاد من حيث بدأ وانطلق مجدداً نحو فتنة مرتقبة عنوانها سياسي ومضمونها طائفي مذهبي لا غالب فيه ولا مغلوب.
هذا هو لبنان الذي يعيش اليوم مرحلة جديدة من الصراع الدولي في المنطقة تحت عناوين النفط والحروب والمصالح والاحتلال والاستبداد والهيمنة والاستعمار وتوزيع الحصص في ما بين الأقوياء: أميركا وروسيا وإيران والسعودية وسوريا وتركيا ومصر وفرنسا ودائماً ودوماً إسرائيل.
فيا زعامات لبنان الفذة، من يمتلك منكم الجرأة على كسر جدار الخوف كما فعلنا لما خرجنا إلى الشارع في مواجهتكم.
من لديه منكم القدرة على اتخاذ القرارات المصيرية التي تحصن لبنان من هيمنة الأقوى، بإرادة أبنائه وقدرتهم على الإنجاز وبمستوى التضحيات التي قدموها للعيش فيه بكرامة.
توقعنا من بعضكم أن يتماثلوا بقادة التاريخ الذين واجهوا أعتى دول العالم محصنين بتصميم شعوبهم وإرادتهم. من عبد الناصر إلى مانديلا إلى الخميني إلى كاسترو وغيرهم ممن تصدوا لهيمنة الخارج على شعوبهم ليبنوا معهم دولاً تتصدى ويدفع أبنائها ثمن العيش الكريم لأجيال فيها.
تحملوا مسؤولية إخفاقكم. راجعوا حساباتكم إذا ما كنتم جديين. تعرفوا على أخطائكم واعترفوا بها كمنطلق ليكون لكم دور في صنع المستقبل.
تداركوا الأمور قبل فوات الأوان، فإخفاقكم هو الذي أوصلنا إلى ما نحن فيه اليوم. دولة مفلسة تنهار. لم تتمكنوا من مواجهة التحديات التي فرضت عليكم. لم تتحصنوا في المواجهة التي تعصف بمنطقتنا منذ عقود. أنتم من يتحمل مسؤولية ما وصلنا إليه. ماذا تنتظرون لتعترفوا بذلك وكيف لنا أن نثق بأنكم أنتم من سيخرجنا جميعاً من هذه الكارثة التي تسببتم بها؟
ليس العيب في النظام ولا في القانون ولا في المؤسسات ولا في موازين القوى ولا في عجز المال، بل العيب فيكم وفي قدرتكم وجدارتكم على إدارة البلد ومن يعيشون فيه.
راجعوا تاريخكم وتيقنوا لما سبقناكم إليه: أنتم المسؤولون بعد أن نلتم ثقة الناس مراراً وتكراراً في الانتخابات والاصطفاف خلفكم، ومن خلال التضحيات المتكررة التي قدمها الشهداء في حروبكم، وفي تنازل الناس عن حقهم لمنحكم فرصاً جديدة عند كل تحد. وفي كل مرة استغليتم هذه الثقة لتحقيق مكاسبكم الضيقة وأذللتم الناس في معاناتهم وبؤسهم وتخلفهم.
لكم لبنانكم ولي لبناني.
خرجنا منكم، ولبنان الذي نحلم به ونسعى إلى تحقيقه لا مكان لكم فيه.
خرجنا وصرخنا بصوت واحد: لبنان وطننا ولن نسمح لكم بأن تحرموننا الحياة الكريمة فيه. هذا ما قد بات راسخاً في وجداننا. لن نترك أولادنا رهينة انتظار المزيد من إخفاقكم ومزايداتكم وحساباتكم العقيمة ليعيشوا فيه كما عشنا، حياة يجتاحها الخوف والغصب والعار والمساومات الخسيسة.
لبنان الوطن. لبنان المواطنات والمواطنون. لبنان الدستور الموحد والقانون العادل. لبنان الدور التنافسي في صناعة التاريخ ومستقبل أبنائه. لبنان الذي يلبي طموح شعبه، وليس قادته وزمرهم الطفيلية.
انتظر الناس شهراً كاملاً منحوكم فيه فرصة لتصحيح ما كان، فكابرتم وتلكأتم وهذا دليل جديد عن عجزكم.
وها قد وقع الانفجار المحتوم وأنتم أبرز من صنعه وهندسه فأطاح بالبلد. فماذا كنتم تتوقعون؟
الثمن غال والتضحيات ستكون كبيرة في مواجهتكم ومواجهة تركتكم الثقيلة. لن نعود إلى حياتنا كما كانت عليه قبل شهر، مليئة بالإذلال والعجز والمواربة والتشاطر والأفق المسدود.
سنواجهكم ونواجه حلفاءكم وحماتكم وأموالكم وقتلتكم وجلادينكم وستحملون مسؤولية التاريخ أمام كل قطرة دم ستراق في هذا السبيل.
الثمن بات رخيصاً أمام ما بتنا نسخره لكم عند طلوع كل شمس.
هذا هو ديننا وهذا هو مسارنا والله معنا لأننا أصحاب الحق، والكيد للظالمين.