نشرت في جريدة “السفير” بتاريخ 15 آذار 2013
ذهبنا يوم الجمعة الماضي إلى النادي الثقافي العربي، حارس الزمن الجميل، مزهوين بأننا سنلتقي من حول القدس وسائر فلسطين، كما من حول الفكر المضيء والدراسة ـ الوثيقة والبحث الجدي الذي يؤكد أن العروبة، وضمنها الوطنية، ليست حماسة فقط وليست مجرد فيض من الشعر وليست خطباً وبيانات في المناسبات، بل هي جهد دؤوب ومتواصل من أجل ما تؤمن به.
ذهبنا لنتلاقى من حول الدكتورة بيان نويهض، ابنة البيت المناضل، رفيقة جهاد الكاتب المميز بنفس القائد المسؤول، الراحل شفيق الحوت، تتقدمنا الأديبة المجيدة إميلي نصر الله وأمين سر المناضلين صلاح الدين الدباغ، في حين تولت الكاتبة نرمين الخنساء التقديم… وأما المناسبة فتتصل بيوم المرأة العالمي.
ولقد جاءتنا بيان نويهض قوية، حاضرة الذهن والفكر برغم اعتلال صحتها… وحين لاحظت ارتباكنا أمدّتنا بالشجاعة المطلوبة لمواجهة الموقف الصعب، مؤكدة أن الإرادة والإيمان بالقضية والإصرار على الصمود، كل ذلك سيعينها على تخطي الأزمة الصحية وسيحمي فكرها وقلمها وجهدها في خدمة الأمة والوطن باسم فلسطين التي تختصر الأوطان وقضاياها.
***
تعوّدنا أن نستورد الأعياد غير المرتبطة بالدين من الغرب عموماً ثم نعرّبها أو نلبننها مقدّمين الحضور الرسمي بكل أثقال الخطب البروتوكولية التي يكتبها الخبراء من محترفي الإنشاء للسيدات الأولى أو الثانية أو الثالثة، فيكاد يضيع المعنى من الاحتفال المحروس بقوى الأمن ظاهرة مستترة.
اليوم نكرّم من تستحق، بشخصها، بقلمها، بنضالها، بجهدها الدراسي المميّز.
نكرّم ابنة الجغرافيا المقدّسة والتاريخ النضالي المشرّف التي وُلدت في المدينة حاضنة الأديان جميعاً، والتي نشأت في الأرض الواحدة التي تمّ تقسيمها وتشطيرها لتتسع لدولة استُورد شعبها من خارجها، وكان عليها أن تواجه هذا العدو منذ طفولتها، اقتداءً بالوالدين كما بأهل المدينة المقدسة بل بفلسطين التي تختزل الأمة جميعاً.
وإنه لشرف لي أن أكون بين من أعطاهم النادي الثقافي العربي، حارس الزمن الجميل، الفرصة لتحية هذه المناضلة الرفيقة ـ الزميلة ـ الصديقة شريكة عمر واحد من أساتذتي، التي علّمتني أن للكتابة مهمة تتجاوز اليوميات لتحفظ شرف النضال، بالتضحيات كما بالمقاومة، كما بالصمود في الأرض ولو عن طريق سقايتها بالدماء.
وشرف أيضاً أن أشارك مع الأديبة المميزة والروائية المبدعة إميلي نصرالله، وقد أسعدني حظي أن التقيتها زميلة مع العزيزة بيان في دار الصياد، وعملنا لفترة معاً ولقد وثّقت الأيام والصمود على الموقف علاقات الأخوة بالصداقة المستمرة.
أما الصديق صلاح الدين الدباغ فرفيق عمر.. وكانت فلسطين ثالثنا دائماً.
***
يصعب الحديث عن القريب منك بصلة الانتساب إلى القضية وعمق الرابط الوجداني بالعروبة والعروة الوثقى مع الشهداء؛ من قضى منهم ومن ينتظر وما بدّلوا تبديلا، مثل الصديقة التي أعتز بأنني مع بيتها العريق بالأب والأم والزوج أستاذي ورفيق العمر، في صلة تقارب في متانتها القرابة بالدم.
الدكتورة بيان نويهض: كيف يمكن أن أختصرك في كلمات، أيتها المجاهدة التي كلما سقط شهيد تناولت رايته ومهماته وأكملت الطريق مرجئة الدمع في انتظار انتصار الحق، ولو تأخر ميعاده جيلاً أو جيلين أو أكثر.
هل البداية من الأب المؤرخ والأم الشاعرة، من بيت المقدس أم من رأس المتن، من عمان أم من دمشق أم من العاصمة التي فرض عليها قدرها أن تعوّض العواصم المخطوفة: بيروت؟!
من دواعي اعتزازي بمهنتي، الصحافة، أنني تتلمذت في البدايات على يدي أستاذ جعل المهنة في خدمة القضية، هو المناضل شفيق الحوت.. ثم عرفت بيان نويهض زميلة ورفيقة سلاح في دار الصياد… وكان اسمها مشعاً لأنه يستدعي ذكر والدها مؤرخ القضية وداعيتها عجاج نويهض، وخالها المجاهد فؤاد سليم، وقبل أن أتعرّف إلى الأديبة في والدتها وداد سليم.
ثم افترقت بنا الطرق وإن بقينا في قلب إيماننا بفلسطين التي تتضمن الطموحات والآمال جميعاً، الوحدة والتقدم، الديموقراطية وحق الإنسان ابن الأرض وصاحبها في أن يكون حراً، وأن يقاوم تزوير هويته وتاريخه بداعي الضعف أو التخلّف أو العجز عن مقاومة الإقليميات والطائفيات والمذهبيات ملتهمة الأوطان وأهلها، حليفة الصهيونية وإسرائيل والإمبريالية التي استولدتها وما تزال ترعاها.
***
أعترف أنني اكتسبت المزيد من المناعة من هذه الكاتبة ـ الدارسة ـ الباحثة ـ المدققة وهي تؤكد إيمانها بالوقائع الثابتة، وتوظف الحماسة في العمل من أجل القضية، وإرجاء الحزن إلى ما بعد النصر، مهما تبدى بعيداً.
وأذكر، في جملة ما يستعصي على النسيان، صورة بيان نويهض وهي تعمل بدأب المناضل وحماسة المجاهد ودقة العالم لتوثيق كل ما يتصل بمذبحة صبرا وشاتيلا. لم تقف على المنابر لتخطب، وتخلت عن التظاهر والكتابة الشاجبة والمستنكرة، وانصرفت إلى توثيق جريمة العصر بالشهادات الناطقة، بالوثائق المتاحة، بملاحقة الأدلة حيثما استطاعت أن تجدها بل تطاردها حتى تأتي بها لتقدم مطالعة قانونية ثابتة البراهين قاعدتها العلم لا الموقف المسبق والدليل وليس الاتهام المطلق جزافاً.
وبالتأكيد، فإن الكتاب ـ المرجع لبيان نويهض عن مذبحة صبرا وشاتيلا سيظل وثيقة دامغة تدين إسرائيل والأطراف الضالة أو المضللة من القوى الحزبية في لبنان بارتكاب واحدة من أبشع جرائم العصر.
***
شهادتي ببيان نويهض مجروحة..
فهي، كما أستاذي الراحل شفيق الحوت، كانا شريكين بالرأي، حين أصدرت “السفير” .. وقد ساهما فيها بالنصيحة والترشيد قبل الكتابة وبعدها،
ثم إنّ الدكتورة بيان نويهض كانت شريكة في تأسيس ملحق فلسطين ـ السفير العربي الذي تصدره “السفير” شهرياً، للتوكيد على أن القضية المقدّسة حية لا تموت وإن غفل أو تخلى عنها بعض قياداتها ممن أخذهم التعب إلى التقاعد أو إلى الصمت عن الغلط.
إننا نكرّم باحثة مميزة وصاحبة قلم مشرق، ومناضلة رضعت حليب الجهاد منذ الولادة، وقد عمّمته من موقع الأستاذ على أجيال.
بيان نويهض: بين أسباب اعتزازي بمهنة الكتابة أنني أستطيع التباهي ببعض من جعلوا أقلامهم منارات.
تحية لك وتحية لكل من وضعك على هذا الطريق، ولمن رافقك رحلة العمل حتى الشهادة… وليسلم قلمك المضيء في قلب العتمة لأن مداده من الأرض المقدسة فلسطين.
تحية تقدير، في يوم المرأة العالمي، لهذه السيدة التي حاولت فنجحت في أن تعوّض غياب من غاب من المناضلين والمناضلات، كتاباً وبحاثة وروائيين، فنجحت… بل وأضافت ـ بالتوثيق شهادة إدانة قاطعة ضد العدو.
إن الاحتفال بيوم المرأة العالمي يكتسب المزيد من المعنى بتكريم هذه السيدة التي جمعت في شخصها جملة من المعاني السامية كتابة وتعليماً وسلوكاً، جهاداً من أجل القضية المقدّسة وحفظاً لمعنى النضال من أجل حياة كريمة للنساء اللواتي يمنحننا شرف الحياة.