طلال سلمان

لقاء دمشق سلاح موقف

جاء اللقاء المصري السوري في دمشق في موعده تماما ففتح نافذة للضوء والأمل في ليل عربي دامس الظلمة.
والحقيقة ان تلاقي القاهرة ودمشق طالما شكل، وهو ما زال يشكل، بشارة خير للعرب في مختلف أقطارهم، إذ رأوا فيه في الماضي ويرون فيه الآن خطوة نحو الصح وسط غابة من الانحرافات والضياع على الطريق الخطأ.
ثم ان هذا اللقاء قد رافقته وأعقبته مواقف معلنة ترفع سقف الموقف العربي بعدما كانت خفضته كثيرا المساومات والتنازلات التي تتلطى غالبا خلف ادعاء المرونة والعمل على فضح الخصم أو كشف مناورات الراعي الأميركي والنقص في نزاهته ولو على قاعدة »إلحق الكذاب حتى باب… نهاية الولاية«!
لقد مشى الرئيس المصري حسني مبارك، بقدر من الشجاعة، إلى موقف دمشق، الذي أفسح للرئيس السوري الراحل حافظ الأسد مكانه في التاريخ، بصموده الاستثنائي، والذي لا يتعب خلفه الدكتور بشار الأسد من تأكيد التزامه به معتمدا المسلك الرزين والثابت نفسه، بعيدا عن المزايدة وتقصّد التفرد.
ولعل الرئيس مبارك قد قصد بالقدوم إلى دمشق، وبالموقف الحاسم الذي أعلنه عشية الزيارة ثم أكده فيها، الإعلان عن نهاية مرحلة اعتمد فيها »المرونة« بدافع الحرص على الموضوع الفلسطيني والثبات على دور »الحاضنة« و»المرشِّد« و»المنبِّه« و»المحذِّر« بحيث لا يأخذ التسرع أو الاستخفاف السلطة الفلسطينية إلى المزيد من التفريط أو يغري بها تفردها العدو الإسرائيلي ومعه الراعي الأميركي… للمشروع الإسرائيلي!
من هنا فلم تكن مصادفة أن يختار الرئيس حسني مبارك لحظة اللقاء مع الرئيس السوري بشار الأسد لإعلان ما لم يعلنه ياسر عرفات من أن المقترحات الأميركية مجحفة ولن يقبلها الفلسطينيون.
بالمقابل لم يكن الرئيس بشار الأسد يجامل ضيفه حين أعلن فتح الباب، ولو نصف فتحة، أمام السلطة الفلسطينية، إن هي حسمت أمرها وقررت الصمود بالمواجهة، ولو مكلفة، خصوصا وقد ثبُت، ما لم يكن بحاجة إلى إثبات: أن التفريط أعظم كلفة، والمساومة تستنزف الطرف الأضعف إلا بمعنوياته.
كل ذلك يندرج ضمن مقتضيات اللحظة الراهنة، وفي سياق موجبات الاستعداد لمرحلة جديدة قد تكون أقسى وأصعب..
فبعد عشر سنوات من »عاصفة الصحراء«، فإن العرب ما زالوا يتكبدون الخسائر الجسيمة في السياسة كما في الاقتصاد، وفي المكانة الدولية كما في قدرتهم على بناء مجتمعاتهم وضمان الاستقرار فيها.
فلا »حرب التدخل الدولي لتحرير الكويت« من صدام حسين قد انتهت فعلاً، وقد خسر العرب فيها الحد الأدنى من وحدة موقفهم، إضافة إلى العراق نفسه والكويت والنفط العربي جميعا،
ولا مؤتمر مدريد الذي أراد منه الأميركيون (وإدارة جورج بوش الأب تحديدا) أن يكون جائزة ترضية للعرب، استطاع أن يفتح الطريق أمام العرب إلى »السلام«، ولو ناقصا، ومقابل بعض أرضهم والكثير من مقومات إرادتهم السياسية،
ولا كان التفرد الفلسطيني الذي تذرع بطمس »القضية« في مدريد للخروج منها إلى أوسلو، طريقا إلى دولة ما ولو على حساب التحرير.
لم يربح أي طرف عربي في تلك الحرب أو منها، بينما ربحت إسرائيل مرتين: ربحت الكثير مما خسره العرب، من قدراتهم الاقتصادية والعسكرية والسياسية، كما أنها كانت شريكة في أرباح المنتصر الأميركي الذي نظم وحشد وقاد »عاصفة الصحراء« ثم تولى توزيع المغانم والأسلاب على الحلفاء الأقرب فالأبعد… ولم يكن العرب فعليا في مرتبة هؤلاء الحلفاء.
ولعل الهمّ الأكبر الذي يشغل العرب اليوم، وبعد عشر سنوات من ذلك »الغزو« الذي ولد »العاصفة« وبررها، أن يستعيدوا الحد الأدنى من العلاقات الطبيعية، فيتمكن قادتهم مثلا من التلاقي في قمة، ولو تحت ضغط الانتفاضة المباركة في فلسطين وباسم حمايتها، أو ينجح الجهد من أجل زيادة حجم التجارة البينية وصولا إلى السوق العربية المشتركة التي ما تزال في مرتبة الأماني بل الأحلام.
وبالعودة إلى لقاء دمشق فإنه يكاد يشكل »محطة« أو مقدمة يفترض أن يكون لها ما بعدها، خصوصا إذا ما أخذ التوقيت بعين الاعتبار.
فهو لقاء يتم عشية انتقال السلطة في الولايات المتحدة الأميركية من إدارة كان »ولاؤها« للقرار الإسرائيلي شبه مطلق، إلى إدارة لا يمكن تصنيفها »موالية« للعرب، لكنها أقل انحيازا من سلفها الذي ناضل بشخص بيل كلينتون حتى لحظته الأخيرة في البيت الأبيض من أجل صديقه إيهود باراك، سفاح الانتفاضة.
ويتم مع سقوط المقترحات الأميركية والمراهنة على مبادرة معجزة في اللحظة الأخيرة، مما يوقف أو يفترض أن يوقف المراهنة على أوهام »النجدة الخارجية« التي تغني عما تقدم من »النضال« وما تأخر..
فأربعمائة شهيد أو يزيد، وعشرة آلاف جريح أو يزيد، وإحراق البيوت والأشجار والمحاصيل، كل ذلك لم يحرك الرأي العام العالمي، ولم يضمن نزاهة الوسيط الأميركي، ولم يُخرج »العرب« من قوقعة خوفهم إلى المواجهة ولو بالحد الأدنى..
الدلالة الأخطر للقاء دمشق: أنه لا بد من العودة إلى سلاح الموقف..
ومن قبل ومن بعد فالحرب سجال وهي لا تنتهي مع ولاية كلينتون ولا مع ولاية باراك.

Exit mobile version