الاقتصاد السياسي للنفط
تفاءل اللبنانيون حكماً وشعباً بالنفط. وقف مجلس الوزراء يصفقون لأننا دخلنا نادي الدول النفطية لمجرد أننا قسّمنا أملاكنا البحرية الى وحدات بهدف استجلاب عدة شركات أجنبية. ويبدو أننا سمعنا كلاماً من بعضها، فاعتقدنا بوجود النفط والغاز حتماً، وبدأنا نناقش الطروحات؛ طبعاً طرحنا المزايدات؛ وطبعاً هيّأ السماسرة أنفسهم للمشاركة. النفط منحة من باطن الأرض، سيقابلها شيء من السماء، على الأقل في الأيديولوجيا.
اعتبرنا النفط ثروة لأننا لا نبذل الجهد الجدي في استخدامه واستخراجه. منذ آدم سميث حتى كارل ماركس، وقبل ذلك ابن خلدون، مروراً بريكاردو، الثروة هي حاصل عمل الناس. لكننا لا نهتم لذلك. ثروتنا آتية من باطن الأرض والبحر، وسوف نستخدم شركات أجنبية لاستخراجها، وسنعمل مع هذه كموظفين ومقدمي مواد غذائية وخدمات أخرى. وسوف نعرف سعر المزايدة الأكبر الذي تقدمه الشركات الأجنبية لنا، وسوف نحاول أن نوفر لهم الخدمات بأعلى الأسعار. فنحن أمام فرصة لا تتكرر.
اعترفنا سلفاً بالدونية. نحن لا نعرف تقنية استخراج النفط السائل والغاز من أراضينا البحرية والبرية. إذ نستخدم شركات أجنبية ذات خبرة للقيام بذلك. عسى أن يدرب هؤلاء شبابنا المهيّء لاكتساب الخبرة. الخبراء يتحدثون إلينا بلغة التكنولوجيا، ويتحدثون إلى زعماء طوائفهم وأولياء نعمتهم بلغة أخرى: ربما كانت مناقضة. لم نعر الشركة الوطنية أي اهتمام. وربما كان الأجدر أن نبدأ ولو بشكل متواضع أو غير متواضع بما يتناسب مع قدراتنا المحلية. لكن خبراء الاقتصاد يجزمون بعدم وجود الخبرة الوطنية الاستخراجية.
قال بعضنا أنه لا لزوم للصندوق السيادي، وأنه علينا وفاء الدين العام أولاً، ثم يأتي هذا الصندوق. إن الدين العام قد تراكم بفضل الإنفاق الاستهلاكي (رواتب، خدمات صحية، وغيرها). ومن الأفضل ضبط النفقات الاستهلاكية. وهذا يتطلّب سلطة ذات هيبة وذات قرار. وبما أنّ هذين الأمرين مفقودين فإن عائدات النفط (لم نعرف بعد كمياتها) سوف تستخدم للإنفاق الاستهلاكي، والدين العام سوف يتفاقم، وستشعر الطبقة الحاكمة بالبحبوحة، وسوف يتم هدر مال النفط، كما تم هدر مال الدين العام.
وسيكون الإنفاق الاستهلاكي أكثر بذاءة، وسوف يصير معظم اللبنانيين أكثر فقراً. وسيكون المستفيدون الوحيدون هم عملاء شركات النفط وسماسرتها من جميع الطوائف (وهذا شرط العملية).
هلل اللبنانيون جميعاً لأن بلدهم ولج نادي الدول النفطية، ولم يعلموا أنهم دخلوا فعلياً نادي جمهوريات الموز؛ شركات أجنبية تستخرج الغاز والنفط؛ هي تبلغنا بالكميات؛ وهي تشحن الصادرات الى بلد الاستيراد. وستكون حصة بلد المنشأ فتات المائدة. هلل الذين هللوا لما سيدخل جيوبهم لا لما سوف يدخل الخزينة اللبنانية. فهناك تساؤلات كبرى لم تقابلها أجوبة شافية.
الأخطر من كل ذلك أن النفط، حين يتم استخراجه، سوف يؤدي الى بنية ذهنية تقترب من المفاهيم المتعلقة بالريع النفطي، وتبتعد عن قواعد العمل والإنتاج. بذلك سوف ينخفض الإنتاج السلعي. ويصاب اللبنانيون بكسل هولندي. وسيمضون وقتاً طويلاً بانتظار تدفق المن والسلوى.
لا يعلم الكثيرون أن شعار “نفط العرب للعرب” لم يكن يوماً صادقاً. فالشركات الأجنبية بقيت تستخرج النفط بمعزل عن الاقتصاد المحلي، دون أن تساهم فيه، مع تأديتها واجباتها فيما يتعلّق بالضرائب، وتوظيف بعض المحليين في وظائف ثانوية، مثل تقديم الطعام والبحث عن قطع غيار.
لكن البنية الذهنية تكون قد تشكلت. ولن يوحد اللبنانيين إلا شيئاً واحداً هو البطالة. إذ سيقف العاطلون عن العمل في الصف أمام السياسيين، ليدبرون لهؤلاء وظائف ثانوية في الحراسة والأمن وغيرهما. حتى الأمن ستتولاه شركات أجنبية. جحافل من العاطلين عن العمل الذين تركوا الصناعة والزراعة والخدمات المحلية للحصول على عمل لدى شركات تدفع لهم ما يتيسر، بينما الحصة الكبرى من “الموارد المحلية” سوف تذهب الى الزعماء الكبار. جحافل تتبع رؤساء طوائفها. بالطبع سوف تزداد الطائفية تأججاً. والمعروف أن ذلك يؤدي في العادة الى نتائج غير مستحبة. كل الدول التي وضعت نفطها وغازها بيد شركات أجنبية دون بناء الدولة وأجهزتها انتهت الى حروب أهلية.
سوف يطالب اللبنانيون الفقراء بحقوقهم المستلبة، لكن النقابات التي يُفترض أن تدافع عن هذه المطالب قد أفرغت من مضمونها في العقود الماضية. هذا يعني أنّ المزمع أن يصيروا عمالاً، وأن يشكلوا طبقة عاملة مهترئة، وسوف يتحولون الى متسولين. لا نعرف إذا كانت المنظمات غير الحكومة (NGOs) سوف تهب لنجدتهم. هذا أمر مشكوك فيه.
هل نعرف مثلاً أن الدول النفطية العربية كثيرة، وأنها في معظمها تعاني حروباً أهلية (أو هي على أبواب حروب أهلية)؟ وهي على كل حال تعجّ بالعاطلين عن العمل، أو الذين يحاولون الهجرة. لقد انضممنا الى نادي الدول النفطية. في حقيقة الأمر، لقد انضممنا الى دول الفقر. ومن المرجح أن يتراجع معدل الدخل الوطني في لبنان.
بالطبع سوف تتوسّع هوة المداخيل، أكثر مما هي حالياً. وسوف يزداد الفقراء فقراً، وسوف يزداد عددهم.
وسيزداد الأغنياء غنىً وستقل أعدادهم. وبالطبع ستكون الانتخابات النيابية مناسبة لتشديد القبضة على الديمقراطية الشعبية، وستعيّن اللوائح المدعومة من كبار الساسة النواب من خلال انتخابهم. شركات النفط لا تريد برلمانات متنوعة تثير المتاعب لها. سيزداد لبنان تبعية للرأسمالية العالمية الكبرى. وستكون الانتخابات النيابية نسخة منقّحة عن اللوائح التي وضعها كبار القوم.
يختلف الكلام لو كانت الدولة، التي نحن منها وفيها، قائمة وغير عشوائية، ومكرسة نفسها لخدمة مواطنيها، أو على الأقل قادرة على حل المشاكل البسيطة التي يواجهها المجتمع مثل مشاكل الكهرباء، والمياه، والطرقات، والنفايات، إلخ… ولو كانت الدولة غير عشوائية في تسيير أمورها وشؤون مجتمعها وشجونه، ولو كانت فعلاً دولة مغروزة في ضمائر مواطنيها، ولو كان مواطنوها غير رعايا لزعماء الطوائف، ولو كانت تتمتّع بهيبة القانون والدستور وانتظامهما، ولو كانت غير مكرسة للأمن، ولو كان الاستقرار ضمن حدودها أمر طبيعياً لا يتطلّب ضمانات خارجية.
هيبة الدولة، بالأحرى السلطة، معدومة. قرارها مفقود. قدرتها على إدارة تلة النفايات متلاشية. لا تستطيع ضبط وتسيير أية من المرافق العامة. فكيف تدعي ضبط شركات نفط دولية؟ ليست الأرقام عن المداخيل مهمة لأنها لن تكون في متناول الناس. سيبدوا مواطنونا أمام شركات النفط الدولية كالأقزام يتلقون الأوامر منهم. سيتلقى خبراؤنا التعليمات من الخبراء الأجانب، وكأنهم خدم في بيوتهم. دولة فاقدة الهيبة والقرار؛ لا تستطيع أن تفرض نفسها على شركات دولية تضع دولتنا في جيب بنطلونها اليمين أو اليسار.
الذين منا ذهبوا للحد الأقصى في ليبراليتهم، ذهبوا للحد الأقصى في نيوليبراليتهم. لا يريدون شركات أو شركة وطنية تتعلّم وتختبر أعمال شركات النفط الدولية. ينطلق النيوليبراليون من نظرية أن العمل في النفط ومثيله يجب أن يبقى حكراً على الشركات الكبرى الأجنبية. إدارة شركة محلية ليست من سماتنا. محكوم علينا بالتخلّف، شئنا أم أبينا. عنصرية معكوسة.
أما الصندوق السيادي الذي وصلت إليه الدول الصناعية المتقدمة، وصارت نفطية لأسباب جغرافية، فإنه لا يلزم الآن. يلزمنا الصندوق السيادي لسد عورات النظام السابق في إغداق الموازنات على الإنفاق الاستهلاكي، لا على الاستثمار في البنى التحتية، ناهيك بالاقتصاد الإنتاجي.
لبنان في قطاعيه الخاص والعام (مجموعان على أنهما داخل الحدود اللبنانية) لا ينقصه تمويل للبنى التحتية. يتطلّب الأمر بضعة مليارات مقابل مئتي مليار من الإيداعات لدى البنوك. المال الأوروبي، وربما الأميركي، وربما العربي، المخصص لإنماء لبنان لم يقل مرة عن مليارين ونصف، لكنه بحاجة الى حكومة وبرلمان يتخذان القرار.
القرار المفقود هو السبب. هذا القرار وتطبيقه لدى أجهزة الدولة هو الأولوية الأولى. ليس استخراج النفط هو الأولوية الأولى. بناء الدولة هو الأولوية الأولى. بناء الدولة بسيط جداً. هو أن تصبح البيروقراطية (موظفو الدولة وموظفاتها) أبناء (بنات) الدولة، لا أبناء الطوائف. دون وجود دولة ذات هيبة وقوة ستنال الدولة من شركات النفط بعض البخشيش. سيكون الوسطاء الشاطرون منهم فقط هم الذين سيراكمون أموالاً يتحدث عنها الناس. هؤلاء سيصيرون هم “أبطال المرحلة الماليون”، علماً بأنّ البطولة والسمسرة لا يجتمعان في شخص واحد. شبكة الوسطاء ستكون أكثر فائدة لهم، نظراً لكثرة زعماء الطوائف الفاغرين أفواههم، والذين ينتظرون حصتهم ونساؤهم وأولادهم. لا يضير الوسيط أن يصبح مربياً للأولاد. هؤلاء تعودوا أن توصلهم سيارات الدولة الى مدارسهم، وهم مدججون بالسلاح وتصفيح السيارات.
إن الأتاوات، والضرائب للدولة، وحساباتها، وغيرها من عائدات الدولة، سوف تحسبها الشركات مع مدققين لها من موظفين صغار، يخافون الاعتراض، ناهيك عن التدقيق بكميات النفط المستخرجة وحساباتها. التعقيد جزء من التعمية، وهذه هي الوسيلة الفضلى للرأسمالية الوافدة (والمحلية) كي تعمل وترتكب، وتوهم الرقابة أنها تفعل ما يتوجّب عليها حسب القانون. طبعاً، كل شيء على الورق سيكون حسب القانون “المحكم”. لكن كل شيء فعلياً سيكون حسب قانون الشركات الرأسمالية الحقيقي، وهو الحد الأقصى من الربح للشركات.
مهما قيل عن قوانين ومراسيم، ومهما كانت هذه القوانين والمراسيم منتظمة على الورق، إلا أن ما سيحدث فعلاً سيكون غير ذلك بمباركة السلطة اللبنانية، بالطبع دون أن تُزوّد بالمعلومات الصحيحة.
هيصة مجلس الوزراء ومجلس النواب على أن لبنان صار في عداد نادي الدول النفطية لا تبشر بالخير. كلنا نعرف أن الدولة غير منتظمة في جميع القطاعات الأخرى، وأن العشوائية التي تحكمها، وأنّ الأحكام والقانون، وحتى العقود، لا تحدث إلا في حالات قليلة عندما يختلف الموظفون مع أسيادهم الفعليين (الشركات) الجدد.
أصبح لبنان عضواً في النادي النفطي. يتشكل معظم هذا النادي في معظم البلدان العربية من دول ذات حروب أهلية أو ما شابهها. لو أجال الواحد منا بنظره من المحيط الأطلسي الى المحيط الهندي لرأى الشعوب في البلدان النفطية هي الأكثر فقراً، وبطالة، والأقل عمالة. العضوية في هذا النادي لا تدعو الى الفخر. كل البلدان خاصة العربية منها تعاني حروباً أهلية أو ما يشبهها.
النفط نعمة عندما يكون لنا دولة تستطيع (هيبة، قرار) معالجة النفايات، والكهرباء، وما شابه. النفط نقمة عندما تكون هذه الأمور غائبة عن ذهنها. الانكباب على النفط الذي تمارسه الطبقة السياسية هو الهروب من بناء الدولة الى محاولة الاغتناء، وبناء الثروات على أساس النفط الذي يُزمَع اكتشافه، وتدفق نعمه.
تشاؤمنا بالنفط ليس مطلقاً. تشاؤمنا بالدولة هو المطلق. الدولة في مواجهة الشركات، وهي (أي الدولة) لا تمتلك القوة السياسية للمواجهة، فكيف بالقوة للمحاسبة. الأرقام ذاتها لا تدل على شيء. يصير لها معنى عندما تقترن بالسياسة. والسياسة عندنا مقبوض عليها. ليس المجتمع مفتوحاً. لا بسبب الطوائف فقط بل لأنّ الطبقة العليا عرفت كيف تشد القبضة على القوى الاجتماعية. وما قانون الانتخابات إلا واحداً من وسائل القبضة الحقيقية.
مرتا مرتا تريدين أشياء كثيرة، والمطلوب واحد: هو الدولة. لا نتوقع بناء الدولة قبل استخراج النفط، ولكننا نأمل أن يؤخذ ذلك بعين الاعتبار، وأن يكون بناء الدولة هو الأولوية الأولى في مرحلة المواجهة مع شركات النفط.
في البلدان البترولية حيث الدولة ضعيفة لا يمنع ذلك أن يكون النظام، خاصة الأمني، قوياً؛ وكل ذلك لا يمنع حدوث حرب أهلية في بلدان النفط التي دخلنا ناديها. واحد من الأسباب التي تدفعنا الى المطالبة بالدولة كياناً قوياً، ويكون كياناً قوياً بالسياسة، هو أن لا ننحدر أكثر فأكثر الى حضيض الدول النفطية الأخرى. علينا أن نسمع أقوال الخبراء القدماء (نقولا سركيس، وليد خوري، وغيرهم)، ونأخذ بآرائهم من أجل تفادي المطبات.
الشركة الوطنية التي لا يريدها البعض هي مطلب ملح علنا نتخلص من بعض نتائج انهيار الدولة.
تنشر بالتزامن مع موقع alfadelchalak.com