طلال سلمان

لبنان يعيد تصدير»رمضان«الى المسلمين!

ركب اللبنانيون الفضاء كما ركب اجدادهم الفينيقيون البحر، وانطلقوا الى العالم يبيعونه بضاعتهم الممتازة والفريدة في بابها!
وها هم اللبنانيون، الآن، يعيدون تصدير رمضان (مع بركاته) الى العرب خاصة وسائر المسلمين (ولا بأس ان تلصص »الكفار« و»المشركون« وعبدة الاصنام وسائر الوثنيين فأخذوا عنهم وأخذوا منه).
لقد جددوا فيه وطوروه وعدلوا في تقاليده حتى بات شهر الطيبات واللذائذ والمتع والمسرات الحلال.
هل احلى من شهر الصوم والعطش بوجه حسناء في عمر الورد ولونه، تمنحك مع الابتسامة تلويحة باليد الندية كأنما تواعدك او تدعوك، قبل ان ترفع الى شفتيها المكتنزتين »فم« النارجيلة فتجعله بينهما ثم تمسه بهما مساً رقيقا قبل ان تنفث مع الدخان جوابا على استهجان الشاعر الكبير الراحل امين نخلة حين صعقه مثل هذا المنظر فهتف مذهولا: »أنا لا اصدق ان هذا الاحمر المشقوق فم«!
هل اجمل من شهر التوبة والمغفرة والرحمة اذا ما تم تزيينه ببعض الطرب »الأصيل«، و»الرقص جلوسا« بينما الهاتف الخليوي على الاذن الاخرى يصحي النائم لتوحيد الدائم حتى لا يسهو او تأخذه الغفلة فيخسر الأجر والثواب؟!
وهل امتع من وجبة اضافية يمنحها شهر البركات لغير الصائمين، تثبيتا لإيمانهم الراسخ، وإشهارا لبراءتهم من سموم الطائفية، خصوصا وان ذلك كله موثق بالصوت والصورة ومنقول بالبث الفضائي المباشر الى اربع رياح الارض، مقدما الدين الحنيف بما يتناسب مع روح العصر ومنسجما مع مقتضيات التقدم بخطى واسعة الى رحاب القرن الحادي والعشرين؟!
ان اللبنانيين، احفاد الفينيقيين العظام، يكملون الرسالة فيوصلونها الى حيث قصّر »الفاتحون« او اعجزتهم بدائية الوسائط والوسائل، او سدّ امامهم الطريق الجهلُ السائد او الجاهلية البعيدة المعتصمة خلف الصحارى والمحيطات او الجبال المنيعة التي استعصت على خيولهم الأنيقة وجمالهم الصابرة.
وهم، كأجدادهم، تجار مهرة: يعطون فيأخذون، او يأخذون فيعطون،
»خذ من الفولكلور ذي الطابع الديني ما تشاء، وهات من الاعلانات ذات المردود المالي المجزي ما تسمح به نفسك الكريمة«.
هذه الطاولات مترعة بصحون الحمص والفول والفتة، وهذه الصواني وعليها كل اصناف الحلوى والمكسرات من الجوز واللوز والبندق والصنوبر، الى الحدف والبقلاوة وزنود الست وورد الشام والمفروكة والسفوف وكرابيج حلب والكنافة النابلسية، ناهيك بالشاي والسحلب والكعك بسمسم الخ.
وهؤلاء سيدات المجتمع المخملي ورجال المال والاعمال وعباقرة الفن ببدائعه المختلفة، والكل يضيف الى الزنود سائر الجسد بأعضائه المتناقسة والمكشوفة الا قليلا… خوفا من الزكام وأولاد الحرام.
وها »الصبا والجمال«، سمراوات بعيون دعجاء، وشقراوات بعيون ناعسة، والكل يستدعي »الهوى والشباب والامل المنشود«، وأنت تتلقى الجميع مضطجعا فوق اريكة تستمتع الى حد النشوة، فيحلو لك الصيام وتطيب نفسك بفروض الدين ولا يبلغ بك الوقت حد الامساك الا وقد امتلأت حواسك حتى فاضت متعة، فتستمع الى الاذان منتشيا وتستقبل اليوم الجديد من رمضان هاشا باشا، ولا تتعجل النوم لأن الاحلام التي كنت تسافر اليها عبره قد جاءتك من خارجه وجعلته مجرد مدفن بائس ووقت ضائع تتمنى ان ينصرم بسرعة لتستعيد جلوسك اليها او وصولها الى احضانك الدافئة، برغم البعد.
انها خيام سحرية هذه التي نصبها اللبنانيون فوق سطح الفضاء يدخلها رمضان كئيبا، معفر الجبين، مكفهر الوجه، بطيء الخطوة لأنه مثقل بالجوع والظمأ، فيخرج منها وقد بات فرحا مفرحا مرحا مبهجا مشرقا بأنوار الشبع مرتويا حتى الثمالة، عينا وفما ومعدة وسائر الحواس.
على هذا فقد قرر اللبنانيون احفاد الفينيقيين العظام تمديد شهر رمضان الكريم ليغطي السنة كلها، فيصير الحول مكونا من 12 رمضانا، وكل يوم مكون من اربع وجبات (بإضافة السحور)، على ان تكون الوجبة الاضافية مزينة ومزركشة بألوان العيد.
فكلوا من طيبات ما رزقتم،
كلوا واشربوا وقروا عينا…
يا عين يا ليل…

 

لكي يعود الأبطال إلى الذاكرة: أحمد مريود

الذاكرة… تكاد تكون للعرب هوية! فهم يعيشون فيها إن ارادوا أن يعرفوا أنفسهم، فإذا ما خرجوا منها تاهوا، لانهم هجروا القلم، كما هجروا الفعل من زمان. صاروا رواة لزمن تركهم خلفه ومضى بعيدا الى غيرهم في الامام.
واحد من الاسماء التي تضيء في الذاكرة هو احمد مريود، احد فرسان ما تواضعنا على تسميته، ربما بأكثر من استحقاقه: الثورة العربية الكبرى…
اما جيلنا فقد سمع عن احمد مريود وقرأ عنه، ولو قليلا، وأما مَن بعدنا فلا يعرف احمد مريود لانه لا يعرف ما كان يجب ان ينقش حول ألواح الصدور من تلك الوقائع الايام التي كان مقدراً لها ان تصنع لنا حاضرا مختلفا لو ان قيادتها العليا كانت حقا في مستوى التضحيات الجدية والاحلام التي اضفت عليها بعض القداسة، والكثير من المهابة، فاستبدلتها بمناصب تحتاج دائما الى عصا اجنبية تسندها حتى لا تسقط.
من كتاب لمحمود عبيدات صدر مؤخراً عن دار رياض نجيب الريس للنشر، نقتطف هنا عن احمد مريود (19261886)، قائد ثورة الجولان وجنوب لبنان وشرق الاردن، رواية عن واقعة لا تخفى دلالتها، هي محاولة اغتيال الجنرال غورو »المتعجرف والصليبي الهوى والعقيدة، الاستعماري المتعطش لسفك الدماء، نتذكره عندما نتذكر ميسلون ويوسف العظمة وجباثا الخشب…«
ينقل الكتاب عن مذكرات الجنرال كاترو، الذي لُقب »بملك دمشق«، والصديق الشخصي والمعاون الموثوق للجنرال غورو، وقد نشرها تحت عنوان »مهمتان في الشرق الاوسط« رواية تفصيلية لمحاولة الاغتيال التي دبرها احمد مريود انتقاما لميسلون وابطالها:
»كان غورو يحب كثيرا المجيء الى دمشق. كان يحب جوها التاريخي، وكانت الايحاءات الطالعة من حجارتها العتيقة توقظ فيه الرجل الرومنطيقي والعسكري معا… ان الرجل الذي دمر ميسلون هو ايضا ذلك الرجل الذي كان يقوم بدور الدليل السياحي لاقاربه واصدقائه«.
يقول كاترو:
»استقل غورو سيارته المكشوفة، ومعه فيها الى جانب السائق مترجم عن العربية.
انطلق موكب غورو في سرعة تتقدمه سيارة الجنرال القوية. كانت السماء مشعة، وفي الافق بدا جبل الشيخ طاغيا، وكان رجال الدرك كل في مكانه. وما ان تخطى الموكب الطريق السهل وبدا يتخذ طريق الجبل حتى بدا اربعة من رجال الدرك بثياب مهلهلة يحملون بنادق الموزر، وعند المنعطف الجبلي فتح الفرسان الاربعة النار، يدعمهم شريك خامس كان مختبئا وراء الصخور. وفي الطلقات الاولى اصيب الكولونيل بارنيت، الذي هب واقفا، اصابة قاتلة، وسقط على الطريق. واصيب حقي بك العظم اصابة خفيفة، اي غير مميتة، اما غورو فكانت حصته ثلاث رصاصات. وحين سمع الرصاص قال لي غورو بكل هدوء: انهم يطلقون النار علينا من فوق، فهل معنا رشاش؟ وكنت بردة فعل عفوية قد التقطت رشاشا لكنني وجدته فارغا. وكانت جيوبه في مكان ما من هذه السيارة التي لم آلفها كثيرا. وشعرت بان السرعة وحدها يمكن ان تنقذنا، فصرخت في اذن السائق، أسرعْ يا بنيّ واعطني الذخيرة، فدلني اليها باشارة منه، لكننا كنا قد ابتعدنا عن مرمى الاغتياليين ووصلنا الى مركز درك حقيقيين، وهنا غيرنا عجلة السيارة وتفقدناها فوجدنا فيها آثار رصاصة، فقال لي غورو: انني مدين لك لانك انقذت حياة شقيقتي التي كان لا بد من ان تجلس هنا«.
ويضيف كاترو:
»ليس هناك شك في ان الذي دبر »الاعتداء« هو احمد مريود، هذا الوطني السوري المتطرف الذي لجأ الى اربد، واقام على الحدود نفسها. وقد عرف من عملائه موعد زيارة غورو الى القنيطرة وقرر المحاولة. وكان يعتقد بأني الاغتيال سوف يعطي نتائج ممتازة بالنسبة الى اهل الاستقلال في المشرق وفي العالم.
لقد اصيب غورور يومها برصاصة في خده وثانية في الورك، وقد نزف بغزارة، كما يقول الجنرال غورو (الحفيد) في كتابه عن جده«.
بقي ان نعرف ان الزعيم الوطني احمد مريود ارسل القبعة الى دمشق حيث سُلمت سرا الى ابنة يوسف العظمة، شهيد ميسلون، (وزير الدفاع وقائد الجيش في الحكومة العربية فيصل الاول بدمشق)… وهذه الرواية اوردها المفكر ساطع الحصري، كما اثبتها المناضل الراحل اكرم زعيتر في كتابه عن »تاريخ سوريا الوطني«.
طبعا هذه الواقعة ليست اهم انجازات احمد مريود، لكنني اثبتها للتذكير بالضحية والجلاد، وبمن حاول (ويحاول) منع الجلاد من القضاء على الامة.

 

لغدي وجه حبيبي

جلست الى غدي أجتهد في ان افهم.
كان أنيسا ،فتلطف بي، وأخذ يبسّط لي صورة المستقبل الذي يصطنع الآن في المختبرات وفي معاهد الابحاث وفي الجامعات، ولا يترك للمصادفات التاريخية او لمغامرات المهووسين بالحرب او بالتعصب او الذين يسيرون الى أمامهم وأعناقهم ملوية الى الخلف وعيونهم معلقة بشبح الماضي الذي لا يمكن ان يعود او يستعاد لأنه ميت.
شرح لي كيف تقلص العالم فصار ممكنا احتواؤه داخل علبة صغيرة لها أزرار وآلة تحكم.
واستدرك: لكن العقل ما زال هو السيد. الانسان اعظم من انجازه.
قلت متخوفا: علبة كهذه تغنيك عن مئات البشر، مدرسين وأساتذة ومنسقين وموثقين وحفظة ومدربين و…
قال: من قبل استولد العقل الانساني القطار، ووظف البخار والنار، ثم ابتكر العربة السيارة فالطائرة، وخرق جدار الصوت وجدار الخوف والمجهول فوصل الى الفضاء… وقد طور اساليب وأنماط حياته، لكن العقل ظل هو السيد وظل هو المتحكم بالمبتكرات والاختراعات، ليس العلماء اعظم من العلم، لكن العلم يبقى في صندوقه المرصود الى ان يجيء العقل فيطلقه ويوظفه.
كنت أتأمل وجهه الأسمر الوسيم، وأبحر في عينيه الواسعتين محاولا استكشاف كلمة السر، والتعرف على مبعث الهدوء واليقين.
قلت في نفسي: يجيئه الهدوء من سكناه في الغد، بينما ترجني وتسهدني عواصف القلق المنطلقة من أمس التيه والاغتراب عن العصر.
وقلت في نفسي مغتبطا: لقد نجحت في حل اللغز وفك الطلسم لغدي وجه حبيبي فمن اين يجيء توصب الغربة والخوف من العجز عن الولوج الى كلمة السر.
لغدي وجه حبيبي،
لحبيبي وجه الغد،
كيف لا تطيب الحياة؟

 

الاكتمال

تدور عيني فوق الوجوه تستعيد لك الملامح التي سرقتها منك.
من هذه الرموش، ومن تلك الخد، والعنق من ثالثة، واللفتة التي تستولد الرعشة من رابعة متعجلة.
كل جمال يخصك. ومنك تأخذ الإناث المشتهى.
لكن صورتك لا تكتمل الا بك، وتظل العين عطشى، تدور بين الظلال تستجمع لا يجتمع الا فيك، وترتد الي كليلة، ولا تذهب الى النوم الا حين امنِّيها بأنك تستوطنين الحلم، وبأنكِ ان لم تأتي امكنها ان تسافر اليك عبره.
اراك في كل النساء، وأرى الاحلى فيهن مجتمعا فيك… بل انني لا أرى منهن الا ما يشتركن معك فيه.
يشتركن؟! معاذ الله! بل ما اختلسنه منك، او استعرنه ليتزينّ به وليصطدن به الرجال المتعجلين الذين يرتضون ببعضك، ويتركون لي ان استمتع بانتظار اكتمالك.
ولن تكتملي إلا بي.

 

من أقوال نسمة

قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة الا الحب:
الحب ان تكون انت لا ان تصير ما يراه فيك او يطلبه منك غيرك. الحب هوية وليس قناعا، لا هي تشترى ولا تستعار. ولا يعوض الحب القدرة. فالحب ليست جائزة يانصيب يحمل الثروة بالمصادفة الى من لا ينتظرها ولا يستحقها ولم يبذل من اجلها ماء العينين.
قلت معترضا: ولكن الحب العطاء…
زجرني »نسمة« بقوله: العطاء لا اصدقه، واذا كان من يعطي كبيرا فمن يستحق ان يُعطى هو الاكبر او يجب ان يكون.

Exit mobile version