طلال سلمان

لبنان و<تفاصيله> ماساوية طريفة

ليس مبالغة القول ان لبنان هو الآن اشهر بلد في العالم!!، وإن شعوب الأرض تعرف احشاءه بالتفصيل الممل!! ولم تعد <الشهرة> تقتصر على مدنه والقصبات، ولا هي تتصل ـ مع الأسف ـ بالمبدعين من أهله شعراً ونثراً، غناء وأهازيج فرح، إنتاجاً ثقافياً ونشاطاً فكرياً، بل انها تتركز على مواجعه الناجمة عن تفجرات الفتنة النقّالة فيه، من بيروت إلى البقاع فإلى الشمال فضلاً عن التوترات التي تنذر بمخاطر إضافية في ما تبقى من أرجائه.عاد لبنان، مرة أخرى، مجموعة من التفاصيل وتفاصيل التفاصيل يستذكرها الناس، خارجه بشيء من لذة الاكتشاف نتيجة التوغل في أخباره الجهوية والمناطقية التي اكتسبت أبعاداً عربية وإقليمية ودولية،امّحت <الجمهورية اللبنانية> تماماً في أذهان الأخوة العرب، والأصدقاء، من الأجانب أيضاً… وإن شغلتهم، لزمن طويل، رئاستها التي ظلت صور قصرها الفارغ من سيده، شهوراً عديدة.لم يعد للدولة ذكر. صارت اشلاء ممزقة تتناهبها الطوائف والمذاهب والعنصريات. لم يعد مجلس النواب مؤسسة للتشريع وتجسيد <الارادة الشعبية>. انفرط عقده فصار نوابه متفرقين، متواجهين، متصارعين، متنابزين بالألقاب أهم من <الندوة النيابية> مجتمعة.وبرغم أن انتخاب رئيس جديد للجمهورية قد أنهى دهر <الحكومة البتراء>، فإن المجهودات الدولية ـ الاقليمية ـ العربية لتشكيل حكومة جديدة قد كشفت ما كان قد تبقى مستوراً من عيوب نظامه الطوائفي، ومن انحدار ما كان صراعاً سياسياً فيه إلى وهدة الاقتتال بالشعار الطائفي بل المذهبي الصريح.شحبت صورة بيروت، العاصمة ـ الأميرة، الشارع الوطني العربي والمنتدى الثقافي، الجامعة والمكتبة والمقهى والمشفى وجريدة الصباح، وصارت هذه المدينة العالمية مزقاً من الاحياء ـ الجبهات والشوارع المقتتل أهلها، بربور ـ أبو شاكر (من تحت)، رأس النبع ـ النويري، المصيطبة ـ وطى المصيطبة، القنطاري ـ برج أبي حيدر، قريطم ـ الروشة، الجامعة العربية ـ بئر حسن… وصارت الضاحية النوّارة التي هي بعض بيروت المربوطة معها بحبل السرّة جبهة معادية.اختفت الصورة الجامعة لطرابلس ـ الشام، قلعة العروبة وحصن الوطنية، لتتوزع شوارع وأحياء مقتتلة: باب التبانة ـ بعل محسن، القبة، البقار، حي المنكوبين ـ البداوي… وصار <شارع سوريا> خط الفصل بين الأهالي المسحوقين بالفقر على جانبيه ومن فوقه وأمامه وخلفه..صار البقاع <غربياً> و<شمالياً> و<أوسط> وبينها خطوط فصل بالنار،صار أي مواطن يريد الانتقال من بيروت حيث الرزق والعلم ودار الشفاء إلى قريته يسأل ويسأل ويسأل قبل ان يقرر أي طريق هي الآمنة لكي يسلكها في الذهاب، ثم يستوثق من أمانها في الإياب.وكما في الحروب الأهلية السابقة التي جعلت لبنان <بجبهاته العسكرية> العديدة يبدو كأنه أكثر اتساعاً بمساحته من روسيا وأعظم عدداً بسكانه من الصين، فحسب بعضهم <غاليري سمعان> مثل <ديان ـ بيان ـ فو> وافترضوا ان <جبهة الشياح ـ عين الرمانة> أخطر من خط ماجينو، كذلك فإن الفتن المتنقلة الآن توحي للبعيد الذي مصدر أخباره الفضائيات (لبنانية وعربية!!) وكأن <جبهة سعدنايل ـ تعلبايا> هي كموقعة النورماندي أو كمعركة العلمين في الحرب العالمية الثانية… أو كالصواريخ السوفياتية إلى كوبا التي أنذرت بحرب عالمية ثالثة!الأخطر ان الاخوان العرب، ومعظمهم غارق في <تفاصيل> حروب راهنة، كما في العراق تحت الاحتلال الأميركي، أو فلسطين تحت الاحتلال الإسرائيلي، أو في السودان الذي تعجز سلطته العسكرية عن وقف التفكك والتمزق في أنحائه المتباعدة، يتبارون في سرد تفاصيل التفاصيل عن الحروب اللبنانية، بالنار أو بالسياسة، وعن صراع الطوائف والمذاهب على الحقائب الوزارية في حكومة لن تعيش، ان توافرت لها أعجوبة الميلاد، إلا لشهور معدودة تنتهي بانتخابات نيابية ستكرس الانقسام الطائفي ـ المذهبي (دستورياً!!)، وستجعله القاعدة الوحيدة للديموقراطية (التي ابتدع اللبنانيون لها إضافة خارقة هي: التوافقية!!)..لكأن الجميع بات يشترك في هواية جمع التفاصيل عن الاقطار التي كانت مشاريع دول ثم اندثرت أو تكاد قبل ان تتكامل نمواً، إما لأن استيلادها قد تم بعمليات قيصرية مجافية للطبيعة، وإما لأن أنظمتها الحاكمة اعتبرتها إقطاعيات خاصة فألغت شعوبها وتصرفت بها تصرف المالك بملكه..وإذا كان الاحتلال الأميركي للعراق هو المسؤول الأول والأخطر عن تفتيت هذه الدولة العربية القومية إلى مجموعة من التفاصيل العرقية والطائفية والمذهبية التي تفتقد الآن إطارها الوطني الواحد الموحّد.وإذا كان الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين هو المسؤول الأول والاخطر عن تفتيت فلسطين بالقهر والإذلال اليومي، بالمستعمرات الاستيطانية وجدار الفصل العنصري والقتل الجماعي والتشريد وحصار التجويع… إذا كان كل ذلك صحيحاً، وهو صحيح بمجمله، فإن الطبقة السياسية في لبنان لا تستطيع التبرؤ من المسؤولية عما أصاب الدولة واللبنانيين، ونسبة الكوارث التي تكاد تمزق وحدة شعبه وتكاد تذهب بدولته إلى القوى الدولية (والإدارة الأميركية أساساً) أو إلى القوى الاقليمية (إيران بالتحديد) أو الدول العربية (التي لا تكاد تجمع على أي أمر يخصها) على خطورة أدوار هذه القوى وتأثيراتها على الداخل اللبناني.لبنان قضية عربية في غاية الأهمية والخطورة، والتسلي بتفاصيلها ـ أقله على المستويات الرسمية العربية ـ لا يعني الغفلة أو قصر النظر، فحسب، إذا حسنت النوايا، بل يعني الضلوع أو التسبب أو المشاركة في المسؤوليات عما أصاب ويصيب هذا الوطن العربي الصغير والجميل.كذلك الأمر بالنسبة للعراق، وإن كان العجز أفدح وأخطر تأثيراً.وكذلك الأمر بالنسبة لفلسطين التي صارت عنواناً لنكبة عربية تكاد تصلح عنواناً للحاضر العربي جميعاً، وربما للمستقبل أيضاً…. ووحدهم من لا يهتمون لأمر المستقبل، في بلادهم قبل بلاد الآخرين، هم الذين يحولون المآسي الوطنية والقومية إلى تفاصيل تسليهم ـ بطرائفها القاتلة ـ في أوقات الفراغ!

Exit mobile version