طلال سلمان

لبنان وعروبتة و<الدول> بين خطابي ايميية وضرار

مغرية هي القراءة المقارنة لدلالات المهرجانين الوداعيين اللذين أقامهما وليد جنبلاط لكل من السفير الفرنسي السابق برنارد إيمييه في 8 تموز الماضي، والسفير المصري حسين ضرار، أمس، الأحد.
ويمكن تلمّس اختلاف الدلالات في خطابي وليد جنبلاط، كما في كلمة كل من السفيرين المغادِرَين؛ فالفرنسي قد تحدث وكأنه عضو مؤسس في 14 آذار، مفاخراً بدور حكومته في القرارات الدولية التي استصدرت حول الشؤون الداخلية اللبنانية، وبالتالي في تعميق الانقسام الداخلي عبر التعهّد المفتوح بنصرة ثورة الأرز ولو على حساب حاضر اللبنانيين ومستقبلهم.
… في حين جاءت كلمة السفير المصري تعكس قلقه كعربي، أي كشقيق، على مستقبل لبنان وأمان شعبه واستقرار كيانه السياسي، وإن عبقت بنبرة اعتذارية عن قصور العرب حتى لا نقول تقصيرهم عن المساهمة الفعالة في استنقاذ اللبنانيين عبر المساعدة على توطيد وحدتهم الداخلية وكذلك في وقف التدهور في العلاقة اللبنانية السورية مما يؤذي البلدين الشقيقين والوضع العربي عموماً.
فأما السفير الفرنسي فقد تصرف وكأنه طرف داخلي وأطلق جملة من المواقف والآراء التي تتجاوز الأعراف الدبلوماسية جميعاً، مطمئناً إلى أنه يتحدث في بيئة صديقة ، بدليل أن الجمهور كان يجيبه رافعاً العلم الفرنسي، ولو أن ذلك الجمهور كان يحفظ المارسييز لأنشده تدليلاً على تمسكه بالسيادة والحرية والاستقلال.
وأما السفير المصري فكانت كلمته دعوة للقوى السياسية إلى الوحدة وإلى التماسك الداخلي وإلى تحقيق مسؤولياتها التاريخية في المحافظة على هذا البلد واستقلاله ووحدة أبنائه، وأن لبنان المستقل هو دعم لأمته العربية، على قدم المساواة مع أشقائه جميعاً .
وبغير رغبة في التجريح بشخص السفير الفرنسي إلا أن أحداً لا يستطيع النظر إلى خطبة الوداع تلك على أنها تدعم الوحدة الوطنية أو تعزز الوفاق السياسي بما يحفظ الكيان الذي باتت ضماناته خارجية بمجملها، وأساساً عبر قرارات مجلس الأمن الدولي التي لامست فعززت عوامل الانقسام الداخلي، نتيجة الهيمنة الأميركية على مناخه معززة بحماسة فرنسية مبالغ فيها ربما لأن العهد القديم كان يثأر لنفسه من دمشق عبر بيروت.
وتدل التجارب اللبنانية المريرة على أن حضور الدول وتزايد تأثيرها على حياته السياسية ليس ضمانة لاستقراره، خصوصاً إذا ما ترافق هذا الحضور مع غياب أهله العرب سواء بالرغبة أو بالاضطرار.
وما توالي القرارات الدولية الناظمة لشؤون لبنان في مرحلة ما بعد الوجود السوري إلا الدليل القاطع على استمرار الأزمة، بل وعلى تفاقمها… بقدر ما تعني تحوّل العرب غالباً إلى مجرد شهود ، وأحياناً إلى مجرد واجهة تبرّر للدول والإدارة الأميركية بالذات تدخلها الفظ وتغطيته بالكوفية والعقال.
لقد تفرّق العرب واختصموا، بل إنهم كادوا أو هم فعلاً يحتربون، تاركين كامل المساحة للدول ، في العراق كما في فلسطين ومن ثم في لبنان… مع إدراكهم لخطورة هذا الوضع ليس فقط على العراق وفلسطين ولبنان، بل على مستقبلهم جميعاً في أقطارهم كافة.
قاتل الله العجز… فكيف إذا كان العجز قراراً ورغبة في استحضار الحليف الكبير ؟!
وبالعودة إلى المهرجان وإلى وصايا السفير المصري حسين ضرار، الذي لا تمكّنه الأوضاع عموماً، عربياً ومحلياً، من تقديم ما يتجاوز النصائح فلا بد من أن يذكر له أنه قد استحضر مصر وحاول أن ينتزع لها دوراً… وأنه تطوّع مع زميله السفير السعودي في بيروت عبد العزيز الخوجة لأن يشكلا إطفائية. ولقد نجح هذان الدبلوماسيان المحترفان في التهدئة ، غالباً، ولكنهما عجزا عن اجتراح المعجزات التي يفترض أنها من اختصاص العواصم.
لقد جاء الدبلوماسي المحترف حسين ضرار إلى لبنان قبل خمس سنوات متهيباً هذا الامتحان الصعب في البلد الصغير بمساحته والذي يملأ الدنيا بمشكلاته وخلافاته وتنافس طوائفه و عقد علاقاته مع جارته سوريا، التي فوّضتها الدول ، وفوّضها العرب أيضاً، ذات يوم، الشأن اللبناني، ثم اختلفت الظروف والسياسات لا سيما بعد الاحتلال الأميركي للعراق والموقف السوري منه فتمّ سحب التفويض بطريقة فظة، ردت عليها دمشق بما وسعها الرد… وكان بين النتائج الانهيار المفجع للعلاقات اللبنانية السورية.
أما السفير السعودي الدكتور الخوجة، الذي لم يمتنع عن نظم الشعر حتى في أحرج اللحظات اللبنانية، فقد حاول مخلصاً إقناع الأطراف بأن يتقوا الله في وطنهم وبأن يحفظوا لبنان الجميل … لكنه اكتشف، من بعد، أن الدعوات الصالحة وحدها لا
تكفي، وأن نصائح الرياض قد تصطدم بالضوابط الأميركية، كما بمدى السلامة أو الاعتدال في العلاقة مع دمشق.
وهكذا تحوّل السفيران العربيان إلى واعظين و مبشّرَين ، بينما كانت القيادات السياسية في لبنان تندفع في صراعها بعيداً، بالاتكاء على وضع اليد الدولية على لبنان، التي تريد له غير ما تريد القاهرة والرياض معاً، وبالطبع غير ما تريده الأكثرية الساحقة من اللبنانيين.
لقد حاول حسين ضرار جاهداً، فنجح أحياناً، وبحدود، ولم ينجح غالباً، لأن اللعبة كبيرة ، وأكبر من قدرات العرب مجتمعين، فكيف وهم متفرقون ومختصمون؟
وسيحفظ اللبنانيون لهذا الدبلوماسي الذي مدّت له حكومته فترة سفارته استثنائياً، انه حاول مخلصاً، لكن نجاحه كان يرتبط بحضور الدور العربي لمصر… ومن أسف فإن هذا الحضور بات أقرب إلى الرمزية، لأسباب ليس هنا مجال الإفاضة في تعدادها. وإذا كان وليد جنبلاط قد تحدث عن العهود الثلاثة لجمال عبد الناصر وأنور السادات وحسني مبارك وكأن مصر قامت خلالها جميعاً بالدور نفسه، فذلك لا يعدو كونه مجاملة للسفير، ومجاملة للدولة العربية الكبرى التي تتفاقم الأزمات في دنيانا بقدر ما يتعطل دورها الجامع. وبالتأكيد فليست مصر اليوم على استعداد للعب هذا الدور.
أبسط دليل على شحوب هذا الدور المقارنة بين خطابي السفيرين حسين ضرار وبرنارد إيمييه… وهي مقارنة تزكي في السفير المصري أخوّته وحرصه على أهله في لبنان… أما القدرة فأمر آخر، وهي التي جعلت السفير الفرنسي يتجاوز الأصول وهو يحيي الانشقاق الأخطر في تاريخ لبنان ويتعهّد برعايته.

Exit mobile version