طلال سلمان

لبنان وعاصمتة كونية بيروت صورة داخل تي لا يراها زوارة

ها هي بيروت تتألق من جديد، مستعيدة بعض ملامح العاصمة الكونية..
في يوم واحد، وعبر مواعيد متلاحقة، يمكن أن يستقبل رئيس الجمهورية، أو رئيس الحكومة، أو كلاهما ومعهما رئيس المجلس النيابي، موفداً رئاسياً أميركياً، وقادة حركات مقاومة للاحتلال، إسرائيلياً، كما في فلسطين، وأميركياً كما في العراق، ومختلطاً كما في أنحاء أخرى من هذا الوطن الكبير..
تدوي في أرجاء العاصمة، يومياً، أصوات طوابير المواكبة الزاعقة لفتح الطرقات الضيقة والمزدحمة دائماً، أمام الزائرين الكبار الآتين من العواصم الكبرى، كما من شتات اللجوء. أميركان ومقاومون، موفدون رسميون لهم مهام متناقضة، يتناوبون في زيارات على الرؤساء ثم يقفون أمام عدسات الفضائيات لإعلان مواقفهم، أو ينصرفون وقد اكتفوا بأنهم بلّغوا وتبلّغوا..
الدولة مستوفية الشروط شكلاً: رئيس الجمهورية في القصر الجمهوري في بعبدا، يستقبل ضيوفه متعددي الهوية، يستمع إليهم، ثم يكرز الموقف الرسمي بكلمات عامة، سواء أكان الضيف الموفد الرئاسي الأميركي جورج ميتشل، أو نائب الرئيس الإيراني، أو رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس»… ثم يذهب ضيفاً على جامعة ممتازة أنشأتها واحدة من الرهبانيات الناشطة، فيتحدث عن ضرورة إصلاح النظام، بما يعيد إلى «الرئاسة» بعض ما كان لها قبل اتفاق الطائف من صلاحيات ليقترب من صورة «الرئيس» كما الذين من حولنا في المنطقة العربية، أي «الحاكم» أو «الشريك الكامل» في القرار وليس «الحَكَم» فحسب..
رئيس المجلس النيابي يثير عاصفة يختلط فيها التأييد بالاعتراض الحاد، حول ضرورة تنفيذ ما تبقى من اتفاق الطائف (الذي عُقد قبل إحدى وعشرين سنة شمسية) متصلاً بإلغاء الطائفية السياسية، بينما الوطن الصغير يعيش لحظة حرجة وسط تصاعد الحدة حول حصص الطوائف في الحكم، وصلاحيات ممثليها… بحيث بات أي كلام عن إلغاء الطائفية السياسية يعادل ـ في نظر فئة كبيرة من اللبنانيين ـ إلغاء دور المسيحيين وحرمانهم حق «الفيتو» الذي يتمتع به رئيس الجمهورية، بوصفه الوحيد الذي يؤدي القسم الدستوري، فضلاً عن «المناصفة» في البرلمان والحكومة والإدارة إلخ..
أما رئيس الحكومة الذي يشغله الاهتمام بالوضع الاقتصادي، بعد أن تمّ رفع الحواجز السياسية من طريقه، فيتابع جولاته متخطياً المجال العربي إلى دول إسلامية وغربية يتوقع أن تقدم دعماً يساعده على مواجهة المشكلات الهائلة التي تعترض طريق النجاح، وأخطرها الإدارة المتخلفة التي تدور من حول «تجديدها» الآن رحى «حرب ضروس» قد تزعزع الآمال المعقودة على «العهد الجديد» الذي أنجبته الانتخابات النيابية بقانون الستين الذي يجعل اللبنانيين «شعوباً» متنافرة في المصالح والأغراض وفي تصور المستقبل.
[ [ [
بيروت تتألق من جديد، ومصرف لبنان المركزي يسجل أعلى احتياطي في تاريخه: حوالى 29 مليار دولار!! لكن هذا الإنجاز المهم لن يؤثر لا في خفض قيمة الدين العام، الذي تجاوز حافة الخمسين مليار دولار، ولا هو سيحسّن في أداء «الإدارة العامة» المرمية الآن في غرفة العناية الفائقة، يحيط بها كبار الجراحين لمعالجة الأورام فيها بزراعة أورام خبيثة أشد فتكاً يختلط فيها الهوس المذهبي بالمحسوبية السياسية، بالفساد الذي له «أرباب» يحمونه لأنه استثمار مجز جداً.
«ليل بيروت» صار عنواناً لبرامج فضائيات أجنبية عديدة، فضلاً عن الفضائيات اللبنانية التي اكتسحت «السوق» العربية، بالثرثرة السياسية، كما ببعض «المنوعات» المثقلة بالجنس، والتي تقدم صورة عن اللبنانيين بوصفهم من أهل الرفاه، «يعيشون» لياليهم رقصاً وعشقاً وغناءً أممياً، لا مشكلات اجتماعية تزعجهم، ولا مناطق يعيش فيها ولها أكثرية اللبنانيين تحت ضغط أزمات خطيرة في انخفاض الدخول وانقطاع الكهرباء واضطرارهم إلى شراء مياه الشفة، ولا يجدون مياهاً للري يشترونها لإنقاذ مواسمهم من البوار.
لقد تعاظم الانفصام داخل المجتمع اللبناني، وتكاد كل مجموعة من «شعبه» تعيش واقعاً مختلفاً، إذ أن لها تطلعاتها الخاصة التي تتجاوز إطار «الدولة» القائمة، بحيث أنه يكاد يكون لكل طائفة «كيانها» الخاص ومن ثم منظورها الخاص إلى «الدولة».. وبالتالي فلا بد من «التسويات»، وكل تسوية تذهب ببعض «الدولة»، في مفهومها أو وظيفتها… وهكذا ننتهي إلى مجتمع تحكمه وتتحكّم به مجموعات قيادية باسم الطوائف الخائفة ـ المخيفة تتنازع «الدولة»، فيصار في كل مرحلة إلى «تعديل ما» في الصيغة تذهب بما تبقى من المؤسسات التوحيدية… الجديد الآن أن بعض هذه التعديلات قد تمس المؤسسة الأمنية ـ العسكرية، التي شكلت الضمانة الأخيرة للدولة في عصور الانشقاقات والتصادمات مع الذات، طائفية ومذهبية.
[ [ [
هو «التوافق»: خذ حصتك ولا تقترب من حصتي..
… وأخذ الجميع من الدولة ومؤسساتها، فإذا نحن في مجموعة إقطاعيات لها أعلامها الطائفية والمذهبية الصارخة، ولها زعاماتها شبه المقدسة، لأنها مصدر المناصب والمنافع والامتيازات وسائر مسوغات الفساد والإفساد، حتى انتهينا بلا دولة… وإن ظل الكل حريصاً على المناصب والألقاب وشكليات الديموقراطية بعد تأطيفها بحيث تصبح… من أدوات الزينة، ولا مضمون!
عادت بيروت تتألق من جديد، ولكن مع بعض المشكلات البسيطة التي يتحدث عنها الجميع، ثم لا تجد علاجها الجدي ومنها: انتشار المخدرات انتشاراً واسعاً في مختلف الأوساط، وبالذات داخل الجامعات والمعاهد والثانويات، فضلاً عن الملاهي وعلب الليل، وحتى في الأحياء الشعبية..
وثمة صنف جديد من المخدرات تروّج له بعض الجهات الرسمية تحت عنوان خفض سن الانتخاب إلى 18 عاماً، بحيث يقول الجيل كلمته… فيحسم بها معضلة الديموقراطية! لكن الطائفية تعترض الطريق مرة أخرى، بسبب انعدام التوازن في أعداد الطوائف… فيضيع الموضوع في غياهب المزايدات والمناقصات، خصوصاً أنه يستدعي تعديل الدستور، بداية، وبعد ذلك مجموعة من الإجراءات والقيود الشديدة التعقيد، وتحتاج دهراً من المتابعة اليومية لإنجازها لكي يمكن تحقيق هذا الحلم الذي تعمل المؤسسة الطائفية لوأده قبل أن يبصر النور، على طريقة وأدها مشروع القانون المتقدم للانتخابات النيابية تمهيداً للعودة بلبنان نصف قرن إلى الخلف، بالقانون الذي اعتمد فأعطى مجلساً ائتلافياً بين رموز الطوائف والمذاهب الذين يتبارون الآن في الحديث عن الديموقراطية، ويبتدعون لها مقابر محترمة، لكي يبقى اللبنانيون في مناخ الحرب الأهلية بما هي الاستثمار الأسرع والأجزل عطاء والطريق الأقصر إلى سدة الحكم.
بيروت تتألق من جديد..
لكنها مدينة بلا قلب الآن، أو أن قلبها ليس فيها، لأن ملوك الطوائف التهموا قلبها، وحافظوا على كل أسباب الزينة والبهرجة وأسباب المتعة التي تشكل استثمارات تدر أرباحاً خيالية، وتعزز صورة لبنان كمعرض أكثر منه وطناً لأهله… الطبيعيين!
على أن المتحمسين لنهج المقاومة والذين يحملون للبنان وشعبه التقدير العظيم، وقفوا أمس في مارون الراس يستمعون إلى الأرض المقدسة تشهد للمجاهدين بأنهم قد حفظوها بدمائهم وصدوا العدو الإسرائيلي في حرب تموز 2006… وقد كحلوا عيونهم بمشهد فلسطين الأسيرة، ثم عادوا ليحدثوا أهلهم في أوطانهم عن هذا البلد العجائبي الذي اسمه لبنان!

Exit mobile version