لا في ما أقدم عليه لبنان من تحرك لحفظ حقه بالحد الأدنى من مياهه اللازمة لإرواء عطش الأهل والأرض في المنطقة الخارجة من أسر الاحتلال الإسرائيلي الذي امتد قرابة ربع قرن؛ »مقامرة« يمكن أن تعرضه لانتقام الذي لا يرحم: أرييل شارون؛ من دون أن يجد من يهب لنجدته أو يعينه على مصابه الذي كان بوسعه أن يتفاداه »بالمهادنة« والصبر والاكتفاء بالدعاء على الظالم لعل الله سبحانه وتعالى يكسر يده..
ولا في ما أقدمت عليه سوريا من إعلان الموقف العربي الطبيعي برفض مشروع الحرب الأميركية على العراق؛ وتهديده بأن يتم قصفه »بمدافع« مجلس الأمن الدولي الذي عليه أن يحمي قراره الذي ستستصدره الإدارة الأميركية؛ »اندفاع عاطفي« في لحظة لا تجوز فيها المغامرة بمناطحة الثور الأميركي الهائج والمتلاقي بالمصلحة كما ببعض مقولات »صراع الحضارات« التي تجمعه مع العنصرية الإسرائيلية (الغربية بالمولد والممارسة) في الرغبة المشتركة بالانتقام من العرب؛ يستوي في ذلك »الصديق التاريخي« منهم و»الملتحق« و»المحايد« وصاحب الموقف الثابت المطالب بالحد الأدنى من العدل بقوة القرار الدولي… وهو مع فلسطين وحقوق شعبها في أرضها وفي دولة فوقها؛ منسي تماما؛ برغم تكراره وتعاظم أرقامه؛ لطول العهد بموعد صدوره الأول قبل خمسة وخمسين عاماً بالتمام.
لكأن حفظ الحق بالمياه الوطنية؛ ولو بالحد الأدنى؛ »تطرف« قد يصل إلى حدود »الإرهاب«؛ في العين الإسرائيلية؛ (فكيف بالنفط أو بالأرض والسيادة عليها)؟!
كذلك لكأن الإعلان الصريح؛ ومن فوق منبر الأمم المتحدة؛ برفض الحرب الأميركية على العراق (وهي فعلياً على المنطقة كلها..) هو تجاوز للخط الأميركي »الأحمر« الذي التزم به بعض سلاطين العرب حتى على حساب عروبتهم ودينهم (وأموالهم؛ وهي الأغلى)؛ فالحكم عندهم أعز من الأوطان والمبادئ التي يشقشق بها »المراهقون« ألسنتهم على مدار الساعة!
لقد أطلقت سوريا »كلمة الحق في وجه سلطان جائر«؛ متجاوزة الموقع الدفاعي الذي حاولت بعض الدوائر الأميركية المرتبطة بالصهيونية إلزامها به عبر مشروع القرار المقدم للكونغرس تحت عنوان »محاسبة سوريا«؛ فأنقذت بذلك كرامتها كدولة؛ وبعضاً من كرامة أمتها التي أهدرها حكام العجز العربي الذين بلغت بهم الضعة حد الاستعداد لتمويل تكاليف الحرب الأميركية الجديدة على أمتهم عبر العراق.
لم تكن كلمة سوريا التي أعلنها فاروق الشرع؛ باسم الرئيس بشار الأسد؛ مجرد هجوم مضاد؛ بل كانت استحضاراً لموقف عربي جماعي؛ كان يفترض أن يتخذ بداهة؛ وبغض النظر عن الرأي في النظام القائم في بغداد… فإذا كانت إدارة جورج بوش قد اتخذت لنفسها حقوق المدعي العام والقاضي والجلاد فأبسط واجبات العرب أن يمنعوا الأذى عن أنفسهم؛ وأول الطريق لمنع هذا »الدمار الشامل« هو التضامن ورفض الحرب الأميركية.
.. خصوصاً أن هذه الحرب الجديدة تأتي وكأنها »الحاضنة« لحرب الإبادة الإسرائيلية ضد شعب فلسطين في أرضه؛ المفتوحة والمستمرة والتي تتخذ أكثر فأكثر شكل الإبادة الجماعية لأسباب الحياة وأبناء الحياة في أرض »القضية المركزية« (والمسلمين) أجمعين!
لم يأخذ »الإرهاب« سوريا إلى ادعاء الحياد في مسألة يكاد يتساوى فيها »الحياد« مع الخيانة؛ ولا هو فرض عليها الخرس؛ والصمت مقبرة الجبناء.
ولعل سوريا بموقفها المنطقي والطبيعي هذا قد أنقذت شرف الأمة العربية؛ حتى لا تتهم جميعها بأنها متواطئة على ذاتها عبر »مواكبتها« الحرب الأميركية على العراق؛ بالتأييد السياسي كما بالتمويل وتقديم القواعد العسكرية في البر والبحر وفتح الأجواء؛ لعل »الإنجاز« يسبق الغضبة الشعبية ويريح سلاطين الهزيمة.. ولو إلى حين.
ولسوف ينجح لبنان؛ مرة أخرى؛ في إثبات أن المقاومة تحفظ من الحق الوطني ما لا يحفظه التفريط أو التواطؤ مع العدو.
كذلك فإن موقف سوريا سيبرئ العرب من الاتهام الظالم بأنهم قد أدمنوا الهزيمة بحيث انتفت عندهم روح المقاومة؛ ولو بالصمود على الموقف الطبيعي؛ والإصرار على التمسك بالحق وعدم التفريط به وعدم التوقيع على التنازل؛ مهما اشتدت الضغوط حتى لا تصادر حقوق الأجيال الآتية في أرضها وفي بناء حياتها فوقها بكرامة.
والموقف سلاح؛ بل لعله في اللحظات التاريخية؛ أمضى الأسلحة وأقواها.