طلال سلمان

لبنان وحركة تغيير عربيا لا ميدان تحرير في بيروت

يعيش المواطنون العرب، الذين كانوا في مرتبة الرعايا حتى الأمس القريب، بهجة الانتصار على أهل النظام العربي الدكتاتوري والمتخلّف، في تونس بداية وصولاً إلى القلب في مصر، مع ارتدادات تبشّر بإنجازات قريبة في كل من اليمن وليبيا والبحرين والجزائر والمغرب والأردن.. انتهاءً بجيبوتي!
إنها الثورة. إنها نهاية دهر الاستبداد والتخلّف والتبعية. إنها نقطة البداية للتاريخ العربي في مختلف أنحاء الوطن العربي الكبير. إنه الموعد المتجدّد للتلاقي، مجدداً، من حول القضية: «فلسطين».
لقد عاد الشعب إلى «الميدان» بعد غياب طال أكثر ممّا يجوز. أسقط ليل القهر وارتهان الإرادة الوطنية للمهيمن الأجنبي، وعاد ليقرّر بإرادته الحرة مستقبله. عاد ليكون ذاته، بهويته الأصلية..
… إلا في لبنان، وبمعزل عن الفرح الغامر الذي يعيشه معظم أهله، في الظلال السوداء لانقسامهم الذي يكاد يخرجهم من «دولتهم» المتهالكة إلى الفوضى، إذا ما تعذر تفجير الحرب الأهلية بالفتيل الطائفي.
ذلك أن الطبقة السياسية في «وطن الأرز» تطمئن بعضها بعضاً إلى أن لبنان عصي على الاندفاع إلى الثورة بشعار «الشعب يريد إسقاط النظام» الذي يكاد يصير قاعدة حياة في الأرض العربية من أقصى مغربها إلى أدنى مشرقها.
فهذه الطبقة السياسية تعرف، يقيناً، أن «النظام» أقوى من «الوطن» في هذه الدولة الصغيرة التي استولدت قيصرياً، ومن خارج إرادة أهاليها الذين لم يكونوا في أي يوم «شعباً»، وظل توحيد «أطيافهم» متعذراً، خصوصاً أنهم نُسِّبوا إلى «الكيان» بطوائفهم ومذاهبهم التي لم تبرأ من ارتهانها للخارج الذي فصّل «النظام» على مقاساتها بحيث يستحيل أن تقوم به وعليه «دولة» بالمعنى المعروف لهذه الكلمة.
فلبنان ليس مصر التي تكاد تكون أول دولة في التاريخ الإنساني، ولا هو تونس التي استعادها شعبها بمقاومته الباسلة من الاحتلال الفرنسي، ولا اليمن التي استعادتها الثورة من كهوف التخلّف الإمامي ثم وحّدتها إرادة شعبها بالحرب على الانفصاليين ويكاد حاكمها يضيّعها ـ الآن ـ بالدكتاتورية، ولا هو ليبيا التي استعادها شعبها بالثورة ويكاد مفردها يمزقها بالتفرّد..
لبنان هو، في نظر المتفقهين في علوم الهجانة، «دور» وليس وطناً، و«صيغة» للتعايش وليس شعباً طبيعياً بإرادة موحّدة.
[ [ [
لهذه الأسباب، وغيرها كثير، يمتنع على اللبنانيين أن يثوروا لإسقاط نظامهم، مثلاً، فالنظام هو الكيان المصفّح بالمصالح الدولية التي استولدته والتي ما تزال ترعاه وتؤمّن له الاستمرارية، حتى في ظل الحرب الأهلية (كما حصل مرات خلال تاريخه القصير)..
ولهذه الأسباب يمتنع على اللبنانيين أن يكونوا في موقف واحد، أو موحّد، أو مشترك من هذه الانتفاضات الشعبية المباركة التي تعيد صياغة الحياة في سائر أرجاء الدنيا العربية التي كانت قد اُخرجت من دائرة الفعل..
أما الطبقة السياسية فقد انشقت بمواقفها من الانتفاضات العربية بمعايير الربح والخسارة: مَن سيتعزز موقفه وستتوفر له فرصة التقدم نحو السلطة، ومَن خسر الداعم والنصير وسوف ينتكس ويتراجع ويخسر من رصيد أرباحه في السلطة.
وبرغم أن هذه الطبقة السياسية تبدو عاجزة عن تشكيل حكومة جديدة تجيء نتيجة التحوّلات الخطيرة في مواقع ومن ثم في مواقف العديد من الأنظمة العربية، فإنها مطمئنة إلى أن الانقسام في الشارع سيحميها من المحاسبة: فلا شعب سيتلاقى في «الميدان» مؤكداً وحدته، محدداً مطالبه، فارضاً إرادته… «فالنظام» بألف خير!
ثم أن الميدان ميادين لكل منها «جمهوره»، والنزول إليها يعني الاشتباك، وسقوط «الشعب» المنقسم على ذاته، وانتصار «النظام»، مرة أخرى، بمساومات يلجأ إليها «أهله» تكاتفاً وتضامناً ضد التغيير، فإذا الثورة العتيدة حرب أهلية!
… وبينما كانت جماهير «الميدان» في القاهرة وسائر أنحاء مصر تُسقط بالثورة الانقسام بين المصريين على قاعدة طائفية مستحدثة (المسلمون مقابل الأقباط)، كان الشحن الطائفي، بل المذهبي، في لبنان يبلغ ذروته القصوى ليصوّر الحكومة العتيدة وكأنها «التحاق بولاية الفقيه» فاتحاً باب الابتزاز السياسي على مصراعيه وبغض النظر عن «هوية» المستفيدين طائفياً منه في «الداخل»، وسياسياً في الخارج وهم الإسرائيليون، ومن خلفهم الإدارة الأميركية التي لم تستخدم حقها في الفيتو في مجلس الأمن الدولي إلا ضد مشروع قرار «رمزي» يدين الاستيطان الإسرائيلي في الأرض الفلسطينية المحتلة والتي يملكها أهلها الفلسطينيون منذ فجر التاريخ.
[ [ [
ها هو «النظام» في لبنان، الأقوى من دولته ومن أهله جميعاً، يُستخدم كخط دفاع أخير عن النظام العربي المتعفن وعن «قادته التاريخيين» من مسوخ الدكتاتورية: هنا يسهل توظيف الطائفيات والمذهبيات كمصد لرياح التغيير وإشغال «العرب» بأنفسهم وعصبياتهم الجاهلية عن الثورة باعثة الأمل بالغد الأفضل لشعوب هذه الأرض الغنية بخيراتها وكفاءات أهلها المحرومين من الفعل.
ليس مستغرباً، بالتالي، أن تنزل الإدارة الأميركية بثقلها إلى «حقل الصراع»، مستخدمة مدفعية المذهبية الثقيلة، فضلاً عن الطائفية لمنع تشكيل حكومة جديدة ترى فيها احتمالاً لفوز توجه وطني طبيعي لن يقوى على تبديل طبيعة النظام، ولا عن إخراج لبنان من موقعه المحصّن ضد الثورات.. بل وضد الإصلاح المحدود والمحدّد بالسطح، وبما لا يمس مرتكزات النظام الطوائفي ضامن الكيان!
فلبنان مؤهّل، بمعنى ما، وعبر طبقته السياسية المرتهنة بمعظمها للخارج أو لمصالحها التي شرطها الانقسام في الداخل، لتصدّر صفوف «الثورة المضادة»، عبر تضخيم مخاطر الإخلال بالتوازنات الطائفية بل المذهبية، وهي هشة بطبيعتها، ولا بد أنها ستعكس نفسها على التطورات السياسية المحتملة في ما لو تواصلت اندفاعات الثورة التي بلغت ذروة التكامل في مصر عبر إسقاط مشروع الفتنة، مما سينعكس إيجاباً في اليمن وفي البحرين وفي الكويت وصولاً إلى… لبنان.
لا بد، إذن، من كسر الحلقة الضعيفة (والقوية في آن) ممثلة في الدولة الهشة بوصفها مجمع الطوائف والمذاهب، لبنان: دعم النظام بالفتنة المذهبية التي كان مشروعها مرشحاً للتوسّع، إلى ما قبل أسابيع قليلة، بديلاً من الثورة الوطنية التي توحّد وتمنع التقسيم.
[ [ [
لم يشهد الوسط السياسي حركة ناشطة للدبلوماسية الغربية بالقيادة الأميركية كالتي تزدحم بها الشوارع والبيوت ومراكز الأحزاب أو التجمعات، ليلاً نهاراً، لنسف احتمالات قيام حكومة جديدة. صار المكلّف بالتشكيل مزيجاً من الخميني وغيفارا!
كل العواصم التي لما تطلها رياح الثورة، وإن كانت أحاطت بها، تخوض معركة الدفاع عن «مصالحها» و«أمنها» في لبنان، وعبر حكومته العتيدة التي ستولد ـ متى وُلدت ـ مشوّهة بما شوّه سابقاتها من ركاكة وعجز عن الإنجاز بسبب من تناقض الأغراض السياسية المموّهة بالطائفية والمذهبية.
كأنما لبنان، بشعبه ذي التجارب الغنية، خارج التاريخ وخارج الجغرافيا.
كأنما قدر شعبه الصغير أن يظل أسير الطائفية، ضد الثورة وضد التغيير.
ممنوع عليك الحلم، كلبناني، ليس بإسقاط النظام، بل حتى بتطويره بحيث يمكن قيام حكومة عادية، تجتمع فيها بعض الكفاءات، لمعالجة المشكلات المالية المنهكة، والأوضاع الاجتماعية البائسة، فضلاً عن مصادرة التعليم وتهجينه بما ينتج متعلّمين يفيدون الدول الأخرى، القريبة المهجنة الهوية والبعيدة «التي لا تحب العرب».
ممنوع على اللبنانيين الاجتماع في ميدان واحد. لا بد أن يتوزعوا على ميادين متواجهة بشعارات طائفية أو مذهبية مموّهة بالأعلام ذات الأرزة الخضراء.
ممنوع عليهم الاجتماع من أجل حقوقهم الطبيعية على دولتهم، لأن دولتهم ليست لهم،
لا ميدان تحرير في بيروت، بل إن شوارعها لمواكب السفراء والقناصل.
يجب أن يبقى لبنان «فريدا» في بابه، هو في العرب وليس منهم، وهو مع الغرب وليس منه، وهو «كوني» ولذا فليس بحاجة إلى «هوية».
[ [ [
لن يدوم هذا الارتهان لأصحاب المصلحة في الفتنة التي تخدم أولاً إسرائيل ومن ثم الهيمنة الأجنبية، وبعد ذلك تجيئهم منافعها، على حساب وطنهم وشعبهم.
ها هي مصر قد عرفت طريق العودة إلى ذاتها،
وها هم سائر العرب ينتبهون فيتحرّكون نحو المستقبل..
ولن يبقى لبنان رهينة الطوائفيين العاملين لمصلحة الأجنبي، إلى الأبد.
بعد «الميدان» زمن آخر… ولسوف يجيء إلى الأرض العربية جميعاً، ومنها لبنان، وإن طال السفر.

Exit mobile version