طلال سلمان

لبنان و»التحالف«الفرنسي-السوري

قبل عشرين سنة، تماماً، استقبلت فرنسا اول رئيس جمهورية لسوريا المستقلة، في محاولة لفتح صفحة جديدة في العلاقات بين »الاستعمار القديم« وبين البلد الذي تميز بمقاومته الدموية للانتداب وسياساته التقسيمية.
ويروي بعض من شهد تلك الزيارة بوقائعها المثيرة، ان الرئيس الفرنسي انذاك فاليري جيسكار ديستان قد سأل الرئيس السوري حافظ الاسد، عندما تركز الحديث حول لبنان:
الاحظ انك تعرف الكثير عن لبنان، وانك غالباً ما تلتقي كبار المسؤولين اللبنانيين ولك علاقات شخصية وثيقة مع معظمهم… واحب ان اعرف، سيادة الرئيس، باي لغة تتفاهمون؟!
فوجئ الرئيس الاسد بالسؤال الغريب، وحار هل هو نكتة ام سؤال جدي، وقبل ان يفيق من حيرته اضاف الرئيس الفرنسي: اننا نحن، مثلا، لا نجد صعوبة في الفهم، لان اللبنانيين جميعاً يتحدثون الفرنسية بطلاقة، اما بالنسبة اليكم فالامر اكثر صعوبة..
عندها فقط ثبت للرئيس الاسد »عمق« معرفة الرئيس الفرنسي بالواقع اللبناني، فارتاح وهو يجيبه ان اللبنانيين عرب مثل السوريين وان لغتهم واحدة، وان لهجاتهم العامة تكاد تكون متطابقة لفظاً ومعنى..
امس، في دمشق، وقف ثاني رئيس فرنسي يزور سوريا المستقلة، جاك شيراك، الى جانب حافظ الاسد، ليعلن ما يمكن اعتباره »التأسيس لمرحلة تحالف بين فرنسا وسوريا«… بعدما تثبتت فرنسا (الديغولية) ان العربية هي لغة المنطقة كلها (باستثناء اسرائيل)، وان سوريا تشكل مركزاً محورياً في حاضرها وفي مستقبلها، كما كانت دائماً في ماضيها خلال الانتداب الفرنسي وقبله.
ولقد فتحت دمشق ابوابها جميعاً لجاك شيراك الاتي بعرض صداقة وتعاون مفتوح: اعدت له استقبالا شعبياً نادر المثال، ورشقته بالزهور، وتركته يصافح عشرات المواطنين الذين ازدحموا على طول الطريق بين المطار وفندق المريديان الى حد ان الرئيس الفرنسي مازح مضيفه بانه سيفكر بان يرشح نفسه، مستقبلا، في سوريا طالما هو يتمتع بكل هذه الشعبية.
لقد تخففت »العاصمتان اللدودتان« من كثير من اثقال الماضي، وقررتا ان تنظرا الى المستقبل بحثاً عن تعاون حيوي للطرفين، وفي مختلف المجالات.
وفي لبنان بالتحديد وعبر التفاهم على مسألته، بتشعباتها المختلفة، ارسيت اولى ركيزة للتفاهم السوري الفرنسي،
فمن خلال لبنان فهمت باريس سوريا فهماً جديداً ومختلفاً عن تركة الماضي الاستعماري بكل تعقيداته وترسباته المزعجة،
بالمقابل، فان فرنسا ومن خلال تفهمها للنضال الفلسطيني المشروع صححت الى حد ما نظرتها الى اسرائيل وخططها التوسعية، لا سيما بعدما »بلورها« بنيامين نتنياهو في أكمل »تجلياتها« العدائية.
لقد صححت فرنسا الكثير من منطلقاتها في التعامل مع »المشرق« العربي.
ولعل تصادمها مع المصالح الأميركية كما مع الدور الإسرائيلي المرتبط بها والمتمم لها إضافة الى »الطموح الذاتي« قد حدد لها خط سيرها للحفاظ على دور »مستقل« لها في المنطقة التي طُردت منها مرة في الماضي، ولا يريد لها المهيمنون على حاضرها أن تعود إليها.
لم يعد لبنان للاستعمار مقراً أو لاحتلالها شقيقاته العربية ممراً، كما كان قبل 1943،
ولكنه الآن، وبالنسبة لسوريا وفرنسا بالذات كان »ممراً إجبارياً«، فعدم التفاهم فيه وعليه ومن خلاله كان ينسف احتمالات العلاقات المتكافئة،
ذلك ان التفاهم على لبنان 1996 يتضمن ليس فقط الإقرار بالدور السوري المتميّز فيه، بل وفي المنطقة عموماً.
فلبنان اليوم بلد عربي مؤهل لأن يكون جسراً إلى الغرب، ولم يعد موطئ قدم لنزعة الهيمنة الغربية والفرنسية أساساً على المنطقة.
والاعتراف بالعلاقة المميزة بين سوريا ولبنان يقود إلى تصحيح النظرة إلى إسرائيل وعلاقتها العدائية بالمنطقة وعربها.
ربما لهذا طال الحديث بين الرئيسين السوري والفرنسي حول لبنان، وكاد يشكل مدخلاً مشروعاً إلى مختلف مشكلات المنطقة وهمومها.
فمن خلال تصحيح النظرة إلى لبنان حاضراً ومستقبلاً يمكن التفاهم على إطار »التحالف« العتيد على مستوى المنطقة، والذي أشار إليه الرئيس الفرنسي داعياً إليه الرئيس السوري.
إن مجرد إشارة شيراك إلى »التحالف« يعني أن التفاهم السوري الفرنسي حول لبنان غدا عميقاً إلى أقصى حد.
وتكتسب هذه الدعوة إلى »التحالف« أهمية استثنائية كونها تجيء عشية توجه الرئيس الفرنسي من دمشق، رأساً، إلى لقاء نتنياهو، وفي ظل محاولة أميركية دؤوبة لمحاصرة الدور الفرنسي، والأوروبي عموماً، في »العملية السلمية«، برغم الاحتياج إليه لاستنقاذ هذه العملية التي لم تعصمها الرعاية الأميركية من محاولات الاغتيال الإسرائيلية المتكررة و»أكملها« هذه التي تجري فصولها الآن داخل الأرض الفلسطينية المحتلة كما في لبنان وسوريا.
والتتمة المنطقية لما بدأ في دمشق ستتبلور غداً في بيروت، إذا عرفنا كيف نقرأ نتائج »العودة« الفرنسية إلى المشرق، بغير منظار العواطف سواء التاريخية أو المستحدثة.

Exit mobile version