طلال سلمان

لبنان موتمر دولي

لا وقت لدى اللبنانيين للالتفات إلى ما يجري من حولهم متصلاً بحاضرهم مباشرة وبمستقبلهم في منطقتهم التي تعيش لحظات مصيرية، على وجه الخصوص.
إن همومهم المحلية الثقيلة تسد عليهم الأفق وتحاصرهم باحتمالات كلها خطير، أبسطها أن يفرغ موقع الرئاسة بلا بديل، في غياب التوافق الوطني، وأسوأها أن يُفرض رئيس بقهر الصوت الواحد فتكون الكارثة أشمل وأعم..
ولو أنهم انتبهوا إلى ما جاءت به وزيرة الخارجية الأميركية وما قالته وهي تسوّق المؤتمر الدولي الذي دعا إليه رئيسها جورج بوش تحت العنوان الفلسطيني، لأدركوا أن ثمة عواصف خطيرة ستهب على المنطقة قريباً، وأنهم قد لا يستطيعون تفادي آثارها المدمرة، ولكنهم قادرون حتى الساعة على محاولة ترتيب أوضاعهم بحيث تكون الأضرار محدودة ولهم قدرة على احتمالها..
ذلك أن التصريحات التي أدلت بها الوزيرة رايس لا تعدو كونها اعتذاراً مسبقاً عن احتمال موت المؤتمر قبل انعقاده… فإن لم يمت تماماً، فإنه لن يكون أكثر من إعلان نوايا حول المستقبل تدحض وقائع الحاضر وتطوراتها المنطقية إمكان أن تصل بالفلسطينيين إلى الحد الأدنى من الأدنى مما هو حقهم، برغم كل التنازلات التي قدمتها السلطة ، ثم توّجها الانشقاق داخل هذه السلطة حتى باتت أعجز من أن تأخذ مقابل حكومة إسرائيلية عاجزة عن أن تعطي، وفي رعاية إدارة أميركية عاجزة عن أن تفرض… هذا على فرض أنها راغبة حقاً في إنجاز تسوية ما ، أي تسوية للمسألة الفلسطينية.
بل إن المدعوين إلى المؤتمر العتيد، سواء من العرب أم من سائر دول العالم، لا يستطيعون أن يفرضوا على إسرائيل أن تقدم للفلسطينيين ولو عبر سلطة محمود عباس التي لم تُشتهر بالصلابة الوطنية أو بالتطرف الثوري، ما يمكنها قبوله من دون أن تخسر فلسطينيتها .
لا الإدارة الأميركية التي بات مستقبلها خلفها قادرة على الفرض، لو افترضنا أنها راغبة فيه، ولا الحكومة الإسرائيلية المتهالكة مستعدة لتنازلات نعرف أن لا أحد يقدر على إجبارها عليها، ولا دول المبادرة العربية قادرة على مزيد من التنازل، بعد كل ما قدمته في إعادة الصياغة التي تمت في قمة الرياض لإعلان بيروت.
إن الخائفين على أوضاعهم الذاتية لا يستطيعون أن يصنعوا سلاماً للآخرين… ولقد افترض أهل مبادرة السلام العربية أن الإدارة الأميركية ستضيف من رصيدها إلى تقديماتهم لعل إسرائيل تطمئن فتتنازل ، لكن حكومة أولمرت اكتفت بالمكسب السياسي الممتاز الذي تحقق لها عبر مخاطبة القمة العربية لها مباشرة بوفدها الذي ألقى شبهة على الدور القومي للجامعة العربية أيضاً.
ومع أن اللحظة مناسبة بامتياز لإسرائيل إلا أن حكومتها عاجزة عن أن تعطي القليل القليل مقابل هذا الكثير الذي قدمه العرب مجاناً..
لقد نجح الأميركيون (ومعهم دائماً الإسرائيليون) من تخويف أهل الجزيرة والخليج بالعراق تحت احتلالهم، وعبره بالنفوذ الإيراني الذي يمكن أن يُقرأ ببساطة: الخطر الشيعي … تلك البروباغندا الهائلة، التي سخرت القيادات والمراجع الدينية والسياسية والأصوليات المعتدلة ، لا يمكن أن تحوّل إسرائيل إلى مصدر للأمان والاطمئنان إلى المستقبل.
ثم إن الانشقاق الفلسطيني قد فرض على السلطة أن تلبس لبوس التشدد خلافاً لطبيعتها، بينما شجع الحكومة الإسرائيلية الضعيفة على اصطياد الرئيس محمود عباس والتذرع بتطرفه المستجد لتدعي أنه لا يساعدها على تقديم التنازلات المؤلمة..
ولأن سوريا، التي لا يتضمن عرض المؤتمر ما يرضيها، فهي تستطيع أن ترفض حضوره، فإن رفضت استحال على لبنان الحضور، واستحال على السعودية أن تضغط لإنجاحه، بل إنها ستسبق إلى التنصل من المسؤولية عن هذا المؤتمر الجهيض… ومن الطبيعي في هذه الحالة أن تنطلق المملكة بلسان مصر فتنعى المؤتمر، التي يبدو وكأن وزيرة خارجية بوش قد جاءت للاعتذار عن افتقاده إلى المعنى، هذا لو عُقد..
إنه مؤتمر يأخذ من العرب مجتمعين ما لا طاقة لهم على إعطائه، ولا يعطي الفلسطينيين بالمقابل ما يمكن حتى لحكومة عباس أن تقبله.
إنه مؤتمر يدعو إليه من يحتاجه ليأخذ منه، وليس ليعطي فيه، وهو يطلب كثيراً بحيث يحرج حتى الذين كانوا يطالبون بتسوية على قاعدة الحد الأدنى، فلما افتقدوها امتنعوا عن حضوره.
وهذا خبر جيد للبنان، إذ أن انفراط المؤتمر قد يكون عاملاً مساعداً على تسوية لأزمته الداخلية، لأن الإدارة الأميركية باتت أكثر احتياجاً لمثل هذه التسوية، وليس لأن قياداته المجيدة قد فرضت بتلاقيها صياغة تسوية تصلح قاعدة للحكم في المستقبل، لا مجرد هدنة في انتظار أن تستعيد إسرائيل لياقتها الحربية، وأن تحل في البيت الأبيض إدارة أعظم ضعفاً تجاه الإسرائيليين… لا سيما متى كانوا عاجزين عن تحقيق النصر العسكري بالضربات الخاطفة.

Exit mobile version