طلال سلمان

لبنان في لقاءات دمشق

بينما نغرق في همومنا المحلية الثقيلة، وتستغرقنا تفاصيلها المقلقة لاتصالها بمكامن الفتنة، بكل مخاطرها على وحدة المجتمع والكيان السياسي، فإن التطورات من حولنا تتسارع مقدمة ملامح مرحلة مختلفة عما سبقها، في السياسة الدولية ستكون لها انعكاساتها المباشرة على »إقليمنا« بمجمله، ولبنان من ضمنه، بطبيعة الحال، حتى لو منعته هشاشة أوضاعه الراهنة من أن يكون طرفاً مقرراً أو شريكاً فعلياً في القرار.بين عناوين هذه التطورات أن دمشق عادت »عاصمة إقليمية« مؤثرة، وذات دور معترف بحيويته في المنطقة، خصوصاً أن عناوينه عديدة وإن استخدم للتدليل على أهميته موضوع المفاوضات غير المباشرة برعاية تركيا مع إسرائيل.بين العناوين الأخرى إمكان أن تلعب سوريا دوراً في أزمة العلاقات الإيرانية ـ الغربية، عموماً، والأوروبية تحديداً.. وقد زادت التطورات في المدى الحيوي لروسيا (وبالتحديد جورجيا ثم أوكرانيا) من خطورة التطورات المحتملة في »الشرق« ـ بالمفهوم القديم ـ الذي قد تجمع المصالح فيه بين موسكو وطهران، وبالاستطراد دمشق، وإذا ما أخذنا في الاعتبار الانعكاسات المباشرة لهذه التطورات على مجمل منطقة المشرق التي تعيش دوله ارتدادات الزلزال الناجم عن فشل الإدارة الأميركية في حسم الحروب التي باشرتها عسكرياً في أفغانستان ثم في العراق، والتي مدّتها سياسياً إلى مجمل دول المنطقة مع تركيز شديد على إيران وحليفها الاستراتيجي سوريا، فإن من حقنا في لبنان أن نتساءل عن موقعنا في هذا كله.بهذا المعنى فليست زيارة الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي إلى دمشق حدثاً عابراً، وليس هدفها الفعلي إعادة السوية إلى العلاقات الفرنسية ـ السورية، على أهميتها للطرفين، بل إن لها أهدافاً أخرى تتصل بالطموح الفرنسي للعب دور دولي مؤثر مستفيداً من الفشل المدوي لسياسات الإدارة الأميركية التي لم تستطع كسب الحروب التي باشرتها، والتي تحاول أوروبا عموماً أن تدخل (أو تعود) كبديل ـ مساعد إلى هذه المنطقة، أقله لتحديد الخسائر.كذلك لن يكون اللقاء الرباعي الذي يضم إلى الرئيسين الفرنسي والسوري في دمشق رئيس الوزراء التركي وأمير دولة قطر، محطة عابرة مقطوعة الصلة بما قبلها من تطورات، وإن كانت قد اتخذت لها كعنوان »إعادة وصل ما انقطع من حبل المفاوضات غير المباشرة بين سوريا وإسرائيل«، ولا هي ستكون بغير أثر على مجمل التطورات اللاحقة على المستوى العربي عموماً، ودائماً مع موقع محفوظ لإيران.لقد أثبت الرئيس الفرنسي أنه »تاجر« و»مسوّق« ممتاز للإنتاج الفرنسي، الصناعي أساساً… وهو قد تجاوز في حالات مشهودة كثيراً من الحساسيات وثوابت »الغرور« الفرنسي من أجل المصالح. و»صفقة« الممرضات البلغاريات مع ليبيا أحد العناوين. أما الصفقات مع الخليج العربي والتي دشنتها قطر بصفقة الطائرات، وصولاً إلى أسطورة »القاعدة« الفرنسية في دولة الإمارات، فهي مجرد عناوين لنجاحات ساركوزي »المسوّق«، والذي يكتسب في حالة فرنسا »الرئيس الذي نجح في إنقاذ الاقتصاد الفرنسي« عبر فتح العديد من الأسواق الجديدة، ولا بأس إن كان بعضها في موقع »إعلان النوايا« أكثر منه في موقع »الزبون الأكيد«.لا يعني هذا الكلام، طبعاً، أن فرنسا تتعاون مع خصوم الإدارة الأميركية في المنطقة (إيران بالذات، ومن ثم سوريا) لطرد النفوذ الأميركي، لكن المؤكد أن الرئيس الفرنسي يسعى لأن يدخل شريكاً مطمئناً لطرفي الصفقة، فيحفظ للأميركي بعض هيبته ويُشعر الطرف الآخر (الإيراني أو العربي) بأنه بديل غربي مقبول، وبحصة لا تشكل خروجاً فظاً عن قواعد الصفقات بين الدول.لسنا، بعد، أمام خريطة جديدة للمنطقة… ولكن المؤكد أن »الهجوم« الأميركي الذي تسلح بتفجيرات 11 أيلول قد استنفد اندفاعته، وأن الإدارة الأميركية الجديدة ستكون مضطرة إلى شيء من التراجع عن السياسة الحربية التي اعتمدتها إدارة بوش معلنة فيها أنها سيدة الكون.وليس من دون دلالة أن نشهد الآن، وفي دمشق، هذا التلاقي بين طرفين من أقوى أطراف الاعتراض على الحرب الأميركية على العراق… فالكل يذكر أن فرنسا شيراك اتخذت موقفاً مدوياً ضد غزو العراق، كان عنوانه الخطاب التاريخي لوزير خارجية شيراك آنذاك (دو فيلبان) أمام مجلس الأمن الدولي… في حين أن الرئيس السوري بشار الأسد كان يأمل بأن يباشر الجيش العراقي المقاومة فور دخول قوات الاحتلال الأميركي، واثقاً من التفاف الشعب حوله.ولقد دفعت الدولتان ثمن ذلك الاعتراض غالياً.. إذ دفعت فرنسا الكثير من مصالحها في المنطقة (والعراق بداية)، كما دفعت سوريا الكثير من هيبة نظامها كعنوان للاستقرار في المنطقة، ومن دورها عموماً وإن ظل عنوانه لبنانياً، ولنتذكر تاريخ القرار العقابي الشهير ،1559 باعتباره عودة باريس إلى بيت الطاعة.لا يعني هذا أن فرنسا قد عادت دولة عظمى، وعلى حساب الإدارة الأميركية تحديداً… أو أن سوريا قد استعادت دورها العربي ومن ثم الإقليمي ما قبل احتلال العراق، وأنها بالتالي عائدة إلى لبنان غداً، أو أن لبنان سيجد نفسه عائداً إليها بالاضطرار قبل الرغبة. لكن كثيراً مما كتب على الهواء في بيروت سيرتد علينا غداً.المؤكد أن ثمة مساحة واسعة للتلاقي في المصالح، وهي مساحة قد أخلاها النفوذ الأميركي بتراجعه الاضطراري، ولا يهم كثيراً إن كان ذلك لأسباب تتصل بالاعتراض الداخلي (في واشنطن) أو نتيجة تزايد النقمة في المنطقة العربية عموماً، والاحتجاجات ولو مغمغمة في أوروبا على التفرد الأميركي، والتي يمكن احتساب التطورات في جورجيا وفي أوكرانيا (وفي مواقع أخرى لاحقاً كما يتوقع العارفون) من بين المؤشرات على هـــذا التراجع، وبالـــتالي على جدية التلاقي في المصالح بين من يلتقون في دمشق اليوم.ومن أسف أن لبنان غائب، حتى لو ادعت كل من باريس أو الدوحة أنها تمثله. ففي مثل هذه الحالة تحكم الجغرافيا، ويحكم الفشل السياسي للقيادة التي حوّلت الاعتراض على »الإدارة السورية« للبنان خلال الثلاثين عاماً الماضية إلى مسلسل من الحروب اللبنانية ـ اللبنانية أنهكت الدولة والشعب معاً، وجعلت لبنان في موقع »المتلقي«… في أحسن الحالات.

Exit mobile version