طلال سلمان

لبنان في قمة فشل مقصود كامب ديفيد

لا بأس على الديموقراطية اللبنانية إن نحن أرجأنا حديث الانتخابات التي تجري ولا تجري، بضعة أيام أخرى، ف»كلام الناس لا يقدم ولا يؤخر«، كما تقول الأغنية المعروفة…
كذلك فلا مؤتمر الدول المانحة سيعجل في استقدام ملياراته الموعودة لإنقاذ لبنان من ركوده الاقتصادي، ولا الإصلاح الإداري سيتأثر، ولا حركة الإفلاسات وإقفال المؤسسات ستتوقف، ولا المواسم الزراعية ستجد أسواقا تنقذها من رميها على الطرقات العامة، ولا التعاونيات المهددة في وجودها سيتفاقم الخطر على استمرارها إذا أرجئ الحكي في العلاج أياما..
الأهم أن لا خوف على عودة الاحتلال إلى المناطق التي تمّ تحريرها بالمقاومة، برغم توقف أعمال الصيانة والترميم لطرقاتها، وبرغم انعدام الخدمات في المستشفيين الوحيدين القائمين (بعد) في مرجعيون وبنت جبيل، وبرغم انقطاع المياه عن معظم القرى هناك، إضافة إلى المصيبة الوطنية الموحِّدة في موت التيار الكهربائي بسبب القصف الإداري، هذه المرة، لا الإسرائيلي، أما الأعمال والأرزاق فحدِّث ولا حرج..
* * *
على هذا يمكننا الالتفات إلى ما يجري من حولنا، وتحديدا الى هذه القمة التي دعا إليها الرئيس الأميركي بيل كلينتون، في كامب ديفيد (الشهيرة) إنفاذا لمذكرة جلب إسرائيلية، والتي سيلتقي فيها إيهود باراك رئيس السلطة الفلسطينية ياسر عرفات عند خط وهمي يقع بين »الحل النهائي« المستحيل وبين »الاتفاق المرحلي« الذي لا يفعل إلا تقريب موعد الانفجار.
القمة غداً، الثلاثاء، ومع ذلك فإن أحدا لا يتوقع منها إنجازا، وثمة إجماع نادر على وصفها بأنها »أيأس قمة في التاريخ«، وبأنها تجمع بين ثلاثة عاجزين:
فلا الإسرائيلي الذي طلبها قادر أن يعطي ما يبرر انعقادها، بل هو يريدها ليأخذ فيها من الفلسطيني ما يواجه به حكومته المنهارة، وشعبيته المتدهورة،
ولا الفلسطيني قادر أن يأخذ منها ما يحتاجه لكي يستمر،
ولا الداعي الأميركي قادر على أن يفرض مساومة مقبولة،
وفي كل الحالات فإن هذه القمة التي ليس في الدعوة إليها ما يبررها، لم تأخذ بعين الاعتبار، جملة من الظروف المحيطة، وفي هذا ما يعنينا:
أول هذه الظروف ان لبنان الذي كان (قديما) مضرب المثل في الضعف والعجز عن المواجهة والابتعاد عن ميدان الحروب مع إسرائيل، حتى لو اجتاحته جيوشها محتلة، يعيش لحظة انتصار عزَّ نظيره في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي.
ولن يستطيع ياسر عرفات أن يطرد من رأسه، ورؤوس معاونيه في الوفد الفخم (أكثر من 50 عضوا!!) صورة المقاوم اللبناني بسلاحه عند الحاجز الحد، في مواجهة الجندي الإسرائيلي المصفح الذي خرج من لبنان مدحوراً.
كما أنه لن يستطيع أن يُسقط من اعتباره الصورة النادرة للأمينين العامين: كوفي أنان (الأمم المتحدة) والسيد حسن نصر الله في مقر الأمانة العامة ل»حزب الله« في بيروت…
… ولا أن يُسقط من اعتباره صورة المسؤول اللبناني وهو يجادل الأمم المتحدة ويُلزمها بمزيد من التدقيق في »الخروقات« على الحدود، والعودة إلى الإسرائيلي لإقناعه بالانسحاب من أشبار أو أمتار من الأرض اللبنانية الباقية تحت احتلاله، لكي يعطيها من ثم شهادة حسن السلوك التي تطلبها بأنها قد تحققت فعلاً من تنفيذ إسرائيلي سليم للقرار 425 الصادر عن مجلس الأمن فيها،
بالمقابل لن يستطيع ياسر عرفات أن يمسح من ذاكرته صورة الرئيس السوري العظيم الراحل، حافظ الأسد، وهو يخرج من القمة التي دعاه إليها بيل كلينتون ولاقاه إليها في جنيف، أكبر مما دخلها، بسبب من تمسكه بكل حبة تراب من أرضه الوطنية (خط 4 حزيران 1967).
كانت الذريعة يومها في جنيف هي هي غداً في كامب ديفيد: ضرورة مساعدة إيهود باراك على مواجهة خصومه الكثيرين والأقوياء، ليتمكن بالتالي من متابعة مسيرة التسوية… أي تنازلوا له عن بعض الأرض العربية فيشتري بها بعض »المتطرفين« أو يضمن سكوت بعض خصومه، ويغدو أقوى بما يمكنه من أن يوقع… على قبول تنازلكم!
في أي حال، إذا كان باراك يذهب إلى كامب ديفيد وقد تخفف من حمل لبنان، بكل أثقاله السياسية والأمنية والعسكرية والاقتصادية، فإن ياسر عرفات يذهب مثقلاً بدروس تجربة لبنان التي لم يقرر بعد أن يقاربها أو أن يتمثل بها، ولعله لا يستطيع، بل هو على الأغلب لا يريد…
وإذا كان فشل، بل إفشال قمة الأسد كلينتون في جنيف قد صبّ الماء في طاحونة باراك، وكان ذلك الفشل مطلوبا »لعزل« سوريا والمضي قدما في تنفيذ خطة »لبنان أولاً« بما يمكّنه من التفرغ للموضوع الفلسطيني،
… فإن الفشل (المقصود؟) مع الفلسطيني، كما توحي المصادر الإسرائيلية والدولية على اختلافها، قد يكون مدخل باراك لاستعادة كثرة من الوزراء الذين تركوا حكومته، ورد بعض اعتباره السياسي والتخلص من وصفه بأنه »أضعف رئيس وزراء في تاريخ إسرائيل«.
* * *
هل هي، إذن، قمة بين ثلاثة عاجزين عن النجاح، كل لسبب؟!
في كامب ديفيد الأولى، الشهيرة، كان الوضع مختلفا جذريا: كان الثلاثة أقوياء بما يكفي لعقد الصفقة، بمعزل عن معارضيها.
أنور السادات كان قويا بوزن مصر الاستثنائي وقرار الحرب والنتائج الأولية (العبور) ودلالاتها الخطيرة، برغم انه قد عاد فضيَّع ما كان مقدراً لها أن تعطيه لو أكمل فاكتملت..
ومناحيم بيغن كان قويا بنتائج تلك الحرب المجهضة، إضافة الى الدعم الأميركي المفتوح، وصورة »المنتصر« في النهاية،
أما جيمي كارتر فكان قويا بوضعه الذاتي كرئيس أميركي، وقويا بحاجة الطرفين إليه كوسيط وحيد، خصوصا وأن السادات كان لا يتعب من القول »إن أميركا تملك 99$ من أوراق اللعبة«.
أم هي »قمة الفشل المقصود«، كما قمة جنيف، قبل مئة يوم تقريبا، وللسبب الإسرائيلي نفسه؟!
ففي جنيف كان الفشل المقصود هدفا إسرائيليا استُخدم لتحقيقه الرئيس الأميركي،
وكان يسهل تحميل الطرف السوري، مسؤولية الفشل، بسبب من »عناده« و»تطرفه« و»تشجيعه للإرهاب في لبنان«، وتمسكه بقطعة صغيرة من الأرض (خط 4 حزيران) على حساب »العملية السلمية«!!
وكان الفشل يخدم الأميركي بقدر ما يخدم الإسرائيلي لأنه »يضع الكرة في الملعب السوري«، كما قال كلينتون، بعد القمة.
في كامب ديفيد الجديدة يبدو أن التاريخ يعيد نفسه بصورة كوميدية..
فهي قمة بين ثلاثة آحاد!
يصل إليها باراك »وحيدا« وحكومته تترنح والمستقيلون منها أكثر من الباقين، والاتهامات تلاحقه بأنه لا يمثل الإسرائيليين..
هذا يعني أنه عاجز عن الاتفاق على أي شيء، فإذا ما تجاوز عجزه بأعجوبة فإنه عاجز عن ضمان أكثرية لهذا الاتفاق، في حكومته (؟!) بداية، وفي الكنيست ثانيا، ناهيك بالشارع حيث الاستفتاء الشعبي ممر إجباري… للسقوط والإسقاط!
ويذهب عرفات »وحيداً« على رأس وفد لجب يعرف الجميع انه للاستعراض فحسب، ولكنه هذه المرة لن يملك الجرأة على التفرد، والبديل لصورة حافظ الأسد هي صورة أنور السادات!
أما بيل كلينتون فلا تحتاج »وحدته« إلى برهان.
ثلاثة آحاد لا يصنعون اتفاقا… فكيف بإنهاء صراع تاريخي؟!
ولبنان سيكون في كل زاوية من زوايا ذلك المنتجع الذي شهد إحدى فواجع السقوط العربي، يؤكد إمكان الاحتمال الآخر… الأصلي.
وفي انتظار النتائج نستطيع أن نتسلى بحديث الانتخابات الذي لا يقدم ولا يؤخر!

Exit mobile version