طلال سلمان

لبنان فرنسا مفاوضات اولى

لولا شيء من »الهرقة« أو »الخفة« المستمرة كإرث من الماضي، لأمكن القول إن زيارة الرئيس رفيق الحريري إلى فرنسا هي »أول مفاوضات رسمية«، وبالتالي جدية، بين »الدولتين« على امتداد التاريخ الطويل للعلاقات المعقدة بينهما.
المصالح أبقى من الحنين المَرَضي إلى حقبة ليس فيها الكثير مما يُشرِّف أو يسرّ خاطر اللبنانيين.
لذا فلعلها المرة الأولى تكون فيها الحدود واضحة بين »الدولتين«: فلا فرنسا هي أمبراطورية عظمى ولبنان إحدى مستعمراتها، ولا لبنان طفل ظل يتيمù إلى أن عثرت عليه »الأم الحنون« فاكتملت بها رجولته وتصلّب بها كيانه.
لعلها المرة الأولى التي يسافر فيها مسؤولون من لبنان إلى فرنسا ويكون إلى الطاولة »وفدان« يفصل بينهما ما يفصل »العربي« عن »الغربي«، في حين يمتد حبل المصالح ليربط بينهما في ما ينفع »الطرفين«، مع بقايا »شعطة« عاطفية هي أقرب إلى الفولكلور التراثي منها إلى المشاعر الطبيعية التي لها ما يبرّرها.
وفي ما تتناقله الذكريات عن »العلاقات التاريخية والحارة« في الماضي، أن المسؤول اللبناني كان يتصرف في بيروت وكأنه في باريس، فإذا ما ذهب إلى العاصمة الفرنسية الجميلة ترك في المطار لغته وعاداته وتقاليده و»هويته« ومشاعره الوطنية، وتصرف هناك وكأنه من أبناء الريف الفرنسي أو من الملحقات في ما وراء البحار كالدومينيون وسانت هيلانة والمارتينيك.
لم يكن ثمة أي نوع من التكافؤ، طبعù، ولا من المسافة، وهنا المشكلة.
وبالتالي فلم تعرف اللقاءات الرسمية اللبنانية الفرنسية، إجمالاً، محادثات أو مفاوضات جدية بين طرفين قد تربطهما بعض المصالح المشتركة من داخل اختلافهما في كل ما عداها،
وكان يخيِّم على تلك اللقاءات مناخ من العاطفية المرضية: أبوة بل أمومة فرنسية مبالغ فيها ومخاتلة لأنها تفتقد السند الطبيعي، سواء من التاريخ أو الجغرافيا أو حتى الثقافة، فإذا ما حاولت الاتكاء على الدين تفاقمت المشكلة وولّدت أزمات »سياسية« هنا وهناك وعلى امتداد الطريق الطويل بين بيروت وباريس، وكذلك على الطريق القصير بين بيروت وبيروت ثم بين بيروت ودمشق وما خلفها من ديار.
ليس سهلاً نسيان عصر الانتداب، بكل آثاره الداخلية وعلى مستوى الشعور بالانتماء،
ولقد ظلّ سفراء فرنسا في لبنان، وحتى زمن قريب، يفترضون أنفسهم في موقع »المندوب السامي«، وكان لا بدّ من أن يأتي ديغول إلى السلطة لكي تخرج الأمبراطورية من جلد فرنسا، ولكي يألف الفرنسيون واقعهم الجديد، فيجد »أصدقاؤهم« اللبنانيون طريقهم إلى الحرية وبالتالي إلى إعادة اكتشاف أنفسهم وحقائق حياتهم الأصلية.
* * *
في الداخل ثمة ألف سبب للاختلاف مع رفيق الحريري وسياسات حكومته،
ومؤكد أنه كان يستطيع أن ينجح أكثر، في الخارج، لو أنه كان أكثر أهلية في استيعاب حجم المشكلة الاجتماعية وتأثيرها الخطير على مشروعه لإعادة الإعمار وخطته للنهوض الاقتصادي في بلد شبه مفلس، معتل الادارة، ومُفسد الذمة بالهدر، والرشى والصفقات المشبوهة.
لكن هذا الرئيس الآتي من صيدا، والذي اكتشف وهو في السعودية فرنسا، ودخل نادي شركات المقاولات الكبرى فيها، ثم دخل الحكم في بيروت من باب دمشق معززù بثروته وخبرته الطويلة في مجال الإعمار وإعادة البناء،
هذا الرئيس الذي يملك في فرنسا ذاتها أكثر مما يملك صديقه القديم رئيسها الحالي جاك شيراك، ومعه رئيس حكومته ومعظم الوزراء الفرنسيين،
هذا »الرئيس« المختلف نوعù عن سائر »الرؤساء« اللبنانيين، قد يكون أفضل مَن يفاوض الفرنسيين، وأفضل مَن يسهم في تصحيح العلاقات اللبنانية الفرنسية،
هو الوحيد الذي »له« في فرنسا، وليس لها عليه، والوحيد الذي استضاف في بيروت، كما في باريس من قبل، من غدا الآن رئيس الجمهورية الخامسة، وشيراك متهم بالحريري وليس العكس.
لهذه الأسباب مجتمعة نجح الحريري في باريس بأكثر مما نجح في بيروت،
اللهم إلا إذا أخذ عن صديقه إحساسه العميق بالمسألة الاجتماعية، واستمع إليه يرشِّده ويطرح عليه برنامجه هو لحلها في فرنسا،
… خصوصù وأن شيراك شبه متفرّغ لترشيد اللبنانيين في الداخل والخارج، حول دورهم ودور رساميلهم في إعادة إعمار بلدهم الجميل، ذي العلاقة التاريخية الخاصة جدù والحارة جدù والمعقّدة جدù مع بلاده،
مع التنويه بهذا الجهد المشترك للابتعاد بهذه العلاقة عن السياسة، ولذا غاب عن الزيارة مَن كان وجوده ضروريù، وزير الخارجية فارس بويز، في حين أمضى الوزير السياسي الوحيد في الوفد (وليد جنبلاط) وقته عاطلاً عن العمل يتساءل عن معنى الإصرار عليه ليكون في ذلك الوفد الفخيم!

Exit mobile version