طلال سلمان

لبنان صراع رئاسي معادلة اصلاح فتنة

يمتاز لبنان 2003 عن سائر الأقطار العربية التي تعيش حالة من الاضطراب وافتقاد الأمان، بأن مشكلاته التي تكاثرت وتفاقمت حدتها بحيث باتت تهدد استقراره السياسي وربما وحدة شعبه، إنما هي »صناعة وطنية« بمجملها إن لم تكن بمجموعها.
وفي حين أن معظم الأنظمة العربية يدفعها الخوف من شعوبها إلى مزيد من التنازلات، وأحياناً إلى التواطؤ المباشر مع قوى الهيمنة الأجنبية (الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين والاجتياح الأميركي للمنطقة انطلاقاً من العراق) فإن الصراع على قمة السلطة في لبنان إنما يتخذ من »مصلحة الشعب« شعاراً يزوّر به مطامع أطرافه كما طبيعة أهدافه.
وفي حين يشتد الضغط على الأنظمة العربية من خارجها، باستغلال أخطائها وارتكاباتها في الداخل، فإن الصراع على قمة السلطة في لبنان يكاد يدمر »الداخل« ويكاد يستنزف القدرة على مواجهة الضغط الخارجي، سواء أكان إسرائيلياً بلسان أميركي أم أميركياً بلسان إسرائيلي.
مع السعودية، مثلاً، وصل الأمر بالإدارة الأميركية إلى حد التحريض المكشوف ل»الشعب« على نظامه السلفي »المولِّد للإرهاب«، ثم تجاوز ذلك إلى محاولة استعداء بعض الأسرة الحاكمة على بعضها الآخر، وإلى التلويح بمخاطر تقسيم المملكة تحقيقاً للعدالة في توزيع الثروة على فقراء أرض الذهب!! إن هي لم تستجب لكافة المطالب التعجيزية التي تجعل من المملكة دولة أخرى تحتاج نظاماً مختلفاً ليست الأسرة السعودية ونمط تفكيرها وسلوكها أفضل نماذجه المقبولة أميركياً.
مع ليبيا اتخذت حرب الخارج شكل الحصار الاقتصادي والعقوبات السياسية التي جعلت من هذه البلاد الغنية دولة »معزولة« يعاني شعبها مصاعب الحياة في ما يشبه القرون الوسطى، في حركته أو في توفير أسباب العيش… ولم تسمح الإدارة الأميركية بمناقشة رفع »الحجر الصحي« عن نظام معمر القذافي إلا بفرض العقوبة الأقسى، إذ جعلته يبدو مسؤولاً عن كل حوادث الخطف والتفجير التي وقعت للطائرات والملاهي والسفارات في مشارق الأرض ومغاربها، فضلاً عن شطب دوره العربي والأفريقي، وتصويره وكأنه يشتري بقاءه بثروة شعبه الذي جوَّعه الحصار والمحاولات المتعثرة لفكه.. بغير إذلال علني!
مع السودان (ومن قبل الجزائر) لم يكن على الإدارة الأميركية (وإسرائيل من ضمن أطراف غربية أخرى) غير أن تستثمر مشروع الحرب الأهلية التي مشى إليها النظام بقدميه لعجزه عن مواجهة المشكلات التي استولدها ثنائي »الجنرال والعمامة«، أو أنه فاقمها بحيث باتت وحدة البلاد في مهب الريح، فضلاً عن هدر ثرواتها فيما كان بعض شعبها يموت جوعاً.
على أن المثال الأوضح لهذا الخيار البائس المفروض على العديد من الأقطار العربية يظل مجسماً في فلسطين أساساً ومن ثم العراق: التسليم بالاحتلال المفتوح الذي يؤدي إلى تفجير الكيان السياسي أو تذويبه وتشطيره بحسب مكوّناته الأولية، أو الحرب الأهلية التي قد تذهب بالشعب ووحدته والكيان ودولته ونظامه معاً.
* * *
ونعود إلى لبنان ووقائعه التي يشيب لهولها الولدان!
يفترض أن هذا الوطن الصغير قد تخطى التجربة المرة للحرب الأهلية، منذ اثني عشر عاماً أو يزيد قليلاً، فتمّ ترميم الدولة باعتبارها الإطار السياسي لوحدته الوطنية.
وبالفعل فقد سكنت نيران الحرب الأهلية على مستوى الشارع، لكن التوترات التي لم تكف عن التوالد فوق قمة السلطة تكاد تنقض أساس التسوية السياسية التي اعتبرت خاتمة سعيدة لتلك الحرب المدمرة التي امتدت دهراً واتسعت جبهاتها حتى كادت تشمل محاور الصراع الدولي، والعربي ضمناً، بين منتصف السبعينيات وأوائل التسعينيات.
فالخلافات بين أهل الحكم، »الأبناء الشرعيين« لتلك التسوية، تكاد تقسم هذا الحكم إلى معسكرين متواجهين، بلا فرصة لهدنة بينهما: الأول يعطي نفسه دور النيابة العامة في »محكمة الشعب«، فيوجه إلى »شركائه« اتهامات قاسية لو صحً أقلها خطورة لوجب تقديمهم إلى المحاكمة بتهم أبسطها تبديد الثروة الوطنية بما يهدد استقلال الدولة، وإفساد الإدارة بالرشى والمحسوبيات وتعطيل المحاسبة وهيئات الرقابة، وتدمير المرافق العامة بالإهمال المتعمّد تمهيداً لبيعها أو »خصخصتها« بصفقات مشبوهة!
أما المعسكر الثاني فيوجه إلى شريكه فوق قمة السلطة اتهامات خطيرة أبسطها خرق الدستور ومحاولة جرّ البلاد إلى الدكتاتورية عن طريق عسكرة الحكم وقمع الحريات العامة والبطش بالمعارضين والتفرّد بالقرار قافزاً من فوق المؤسسات الدستورية إلخ…
.. وفي أتون حرب الرئاسات ينكشف واقع المجلس النيابي، الحصن الأخير، فإذا هو مشلول أو معطل وعاجز عن لعب دور »الحكم«، نتيجة التوازنات التي تحكم قانون الانتخاب ومن ثم »استيلاده« شرعاً!
واذا ما صدقنا الشائعات التي تكاد تصير اخباراً، فإن حالة الصراع فوق قمة السلطة مرشحة للاستمرار، بل وللتفاقم يوماً بعد يوم، واسبوعاً بعد اسبوع، (حتى لا ننسى جلسات المصارعة فوق حلبة مجلس الوزراء) على امتداد الخمسة عشر شهراً المتبقية من ولاية رئيس الجمهورية.
الآن غدا لكل من الطرفين شعاره: بعض السلطة يقاتل، بالمواجهة حيناً وبالاستنكاف احياناً، ويستنفر قوى الاعتراض لقطع الطريق على خطر التمديد او التجديد، والبعض الآخر يقاتل لإخراج »شريكه الاجباري« قبل انتهاء الولاية، لتعطيل دوره وصوته في »انتخابات الرئاسة« سواء بالتمديد او بمرشح جديد!
***
بين اسلحة هذه الحرب الرئاسية: الدين العام وتركه يتفاقم لإظهار افلاس برنامج »الشريك«، بغض النظر عما قد يصيب البلاد من أضرار مدمرة، سواء على الصعيد الاقتصادي او عبر تفجر الازمة الاجتماعية الخانقة التي بين مظاهرها تعاظم هجرة الشباب، لا سيما المؤهل مهنياً والاعلى كفاءة وتعليماً، وإفلاس المؤسسات المتوسطة (بعد الصغيرة)، وانعدام فرص العمل، وزيادة مخيفة في معدلات العاجزين والعاجزات عن الزواج، وتفشي المخدرات، والتزايد الملحوظ في جرائم الشرف يقابله انتشار الدعارة (مشرعنة او مطلقة) على نطاق واسع…
… وبين اسلحتها ايضاً: نبش الملفات القديمة التي طالما اثارت الشبهات والريب، والتي يسهل المبالغة في تقدير عائداتها (لو انها كانت للدولة) بما يغني عن الاستدانة، والمثال الابرز هو الهاتف الخلوي الذي طال الجدل حوله حتى لم يعد المواطن يعرف اي رقم هو الحقيقي في غابة الارقام التي تهاطلت عليه كمطر كانون!
وإذا كانت عائدات الخلوي موضع جدل، فإن كارثة الكهرباء تتجاوز قدرة العاقل على الفهم: فلقد تكلف الشعب من حر ماله القليل مئات ملايين الدولارات لتحديث التجهيز وبناء المحطات الجديدة وتوسيع الشبكة وشراء العدادات حتى يكون لكل مسكن عداده، فضلا عن استحداث كادر وظيفي لطوارئ الكهرباء، والاستعانة بالخبرات الاجنبية… ومع ذلك كله فإن حال الكهرباء في لبنان سنة 2003 تكاد تكون اسوأ مما كانت عليه عند مباشرة الثورة الكهربائية!
وفي حين اضطرت الدولة للاستعانة بالجيش لإزالة التعديات على الشبكة وتحصيل الفواتير المتأخر سدادها، وتركيب عدادات جديدة (لم يمانع اي مواطن في تركيبها.. ولا دفع ما استحق عليه نتيجة استهلاكه التيار) فإن اللغط يتزايد حول الذين نهبوا عشرات ملايين الدولارات سمسرات وعمولات ومكافآت لقاء تمرير صفقات مشبوهة، بينها أن المعامل التي اشتراها لبنان »قديمة« بل »متخلفة« وليست متطورة كما قيل لنا، وعلى المازوت وليست على الغاز، كما قيل لنا، وطاقة إنتاجها متدنية جدا، وبالتالي فإن أثمانها المبالغ بها يمكن قسمتها على اثنين في أحسن الحالات، وحاصل النصف الثاني من الثمن ذهب إلى الخبراء في البلع والتبليع وشراء تواقيع الموافقات على الصفقات المشبوهة.
في هذا المجال يصدق الناس كل ما قيل ويقال، ولا يبرئون أحدا من أهل السلطة: بينهم من »قبض« حصة كاملة، وبعضهم من نال ثمن صمته فحسب، وبعضهم الثالث عرف ولم يتكلم، ربما لأن نصيبه في صفقة أخرى!
***
على هامش الحروب الرئاسية تفجرت أزمة بنك المدينة، لتطال برذاذها الأسود القطاع الذي ظل موضع التباهي لبنانياً، ومصدر الإنعاش والتنفس الاصطناعي لموازنة الدولة وتحصين سعر صرف الليرة، أي المصارف عموماً، من دون تحييد »مصرف لبنان« وإبقائه، كما كان في ذهن المواطن في الداخل والمؤسسات الدولية في الخارج، فوق الشبهات.
لقد تبدى خلال هذه الأزمة التي تواصلت عروضها المثيرة شهوراً، أن لمعظم قوى الصراع الرئاسي أدواراً فيها، قد يكون بعضها على شكل التستر بأمل المعالجة الصامتة بعيداً عن الضوء، وقد يكون بعضها الآخر قد اتخذ على ألسنة الناس صيغة الاتهام المباشر باستثمار الأزمة العامة في فك الأزمة المالية الخاصة لبعض النافذين من أهل السلطة… وفي المحصلة كاد الناس يصلون إلى الاقتناع بأن ليس ثمة بريء من المسؤولية عن هذه الأزمة الطارئة أو من الإفادة منها!
بسيطة: نحيل الأمر على القضاء!
أي أمر؟! ومن سيحيل منا، ما دامت الاتهامات، ولو بالشبهة أو بالظن، تكاد تطال الجميع؟!
ومن يحاكم من، في قضية طُمست بداياتها وحرّفت مجرياتها وجرى الحديث عن صفقات لتأمين خاتمة هادئة لعاصفتها التي غطت بغبارها الجميع؟!
وإلى من يشكو القضاء ظلامته في الظروف التي فرض عليه أن يعيش ويتحرك فيها… فالصراع الرئاسي قد امتد بانعكاساته إليه، وجرى تضخيم دوره إعلاميا بما كاد يستهلك الكثير من رصيده المعنوي، إذ ألقوه في يم خلافاتهم مغلول اليدين وقيل له: إياك إياك أن تبتل بالماء!
***
هل لبنان على حافة كارثة تنزل إليه من قمة الخلافات الرئاسية؟!
أخطر ما في الأمر أن هذا الصراع بدأ ينحدر، وكان لا بد أن ينحدر، نحو وهدة التراث الغني لأسباب الفتنة، التي طالما استثمرت في الصراع السياسي لتغليب طرف على طرف، والتي تتخذ منها أطراف الصراع الرئاسي الآن ذريعة لإعادة النظر في صيغة التسوية السياسية التي تقوم عليها »جمهورية الطائف« بقصد »تحسينها« أو »تثبيتها« بتوضيح ما التبس من نصوصها (خصوصا ان وثائقها الأصلية محظور نشرها حتى اليوم لأسباب غير مفهومة)!
وهكذا فإن لبنان مرشح إن استمر هذا المناخ المرضي لأن ينتقل من حرب الرئاسات إلى الحرب على النظام وحصص الطوائف فيه.
وهل »أفضل« من مثل هذا المدخل إلى إعادة توليد مناخ الحرب الأهلية؟!
وفي مناخ كهذا أي إصلاح يمكن الوصول إليه، كائنا من كان المُطالِب به؟!

Exit mobile version