طلال سلمان

لبنان تناقض كيان وطن وتناقض سلطة مقاومة

… فأما الأزمة فمفتوحة سياسياً وباستمرار، على كل ريح..
ولأن لبنان كيان سياسي فهو دولة قيد التأسيس دائماً، لا يكاد أهله يتوهمون أنهم نجحوا أخيراً في إقامتها، حتى يكتشفوا أن الدول أقوى منهم، وأنه من السهل عليها دائماً تحريك أو استغلال العصبيات الطائفية أو المذهبية للتراجع عن الدولة إلى الكيان الضامن لحقوق الأقليات ، تحت رعاية الدول العظمى، وقد كانت عديدة، ولم يختلف الأمر كثيراً بعد أن تفردت الولايات المتحدة بموقع الأعظم وباتت الإمبراطوريات السابقة تبيعها خبراتها .
لم تعترف الدول يوماً، بلبنان دولة سيدة حرة مستقلة. ينطبق ذلك على الدول عموماً، قريبها والبعيد. وليست السفارات دليل اعتراف بالدولة، كما هي الحال مع الدول الأخرى، بل هي دليل اهتمام أو تثبيت لعلاقة خاصة مع هذه الطائفة أو تلك، هذا المذهب أو ذاك. لذلك تحضر المتصرفية كلما احتدمت الخلافات السياسية، بما تعنيه من حمايات أجنبية للطوائف، تحفظ للذاكرة الشعبية توزعها، أكثر مما تحضر الدولة وبالتالي يحضر الرعايا أكثر مما يحضر المواطنون . وبديهي أن الديموقراطية تصير في هذه الحال القناع الواقي من الصدمات، والغلالة الرقيقة التي تخفف من الفضيحة الطائفية بنسبتها إلى العصر وقيمه السائدة… بل إن المطالبة بالديموقراطية تحضر بقدر ما تستشعر أية طائفة وعبر مرجعيتها السياسية إخلالاً بالتوازنات التي تراعي قواعد توزيع الحصص بحسب قوة الحامي أكثر مما بنسبة العدد إلى الرقم الإجمالي للسكان، الذين يُمنع إحصاؤهم بقرار دولي وداخلي ملزم!
لكأن في لبنان شعوباً وقبائل شتى تتوزعها طوائف ومذاهب بأعداد دول اليونيفيل التي أوفدت عسكرها إلى لبنان، ولكن لحماية إسرائيل هذه المرة، ومعها ضمان عدم انكسار التوازنات اللبنانية الدقيقة ، نتيجة للحرب الإسرائيلية بكل نتائجها المؤثرة والتي يمكن أن تخلخل مواقع الطوائف في السلطة الحامية للكيان.
فليس من مهمة الجيوش التي أوفدها أصحاب القرار 1701 أن تبني دولة في لبنان، وإن كان وجودها هنا يؤمن الهدوء المطلوب لترميم التشوّه الذي أصاب الكيان الآخر المتمثل ب دولة إسرائيل في أسطورة قوتها كما في أسطورة ديموقراطيتها (إذا ما ثبت في ذهننا أن ثلاثة نواب عرب في الكنيست الإسرائيلي ينتمون إلى التجمع الوطني الديموقراطي بلد يخضعون الآن للتحقيق، وربما للمحاكمة من بعد بذريعة أنهم جاؤوا إلى سوريا ثم إلى لبنان لإعلان تضامنهم مع شعبه الجريح في مدنه وقراه وبلداته المهدمة..).
? ? ?
ولأن لبنان كيان سياسي فإن السلطة فيه هي التي تستحضر صورة الدولة ، وإن لم تكن بذاتها الدولة .
من هنا يكاد يستحيل على السلطة أن تعترف ب المقاومة وأن تقر بنهجها، الذي لا بد أن تراه مخلاً بالتوازنات الداخلية، وخصوصاً أن المقاومة بكتلتها العظمى تنتمي إلى طائفة بالذات، ومن ثم يسهل تشويه جهدها في التحرير باستحضار الحلفاء الرسميين لهذه المقاومة، ومحاولة إلحاقها بهم..
بل إن السلطة ترى نفسها نقيض المقاومة… وفي هذه اللحظة من الطبيعي أن تحس السلطة بأن الاعتراف بنجاح المقاومة إنما يحسم من دورها، وينقص من دعم الدول لها. وبالتالي فبديهي أن تتأخر (ولا نقول إنها تمتنع) عن نجدة مواطنيها، في أيام الشدة، كالتي نعيش، حتى لا تربح المقاومة أو حتى لا يتأكد انتصار المقاومة. وهي بهذا تفرض على المواطن خياراً قاسياً: إن هو اختار المقاومة أخرجته من نعيمها، فماطلت في تعويضه ما تعهدت به في سياق المنافسة مع المقاومة ، وتباطأت في الإفادة من النجدات العربية التي جاءت لدعمها هي السلطة لتأمين اندفاعة سريعة في إعادة الإعمار، وتأمين بيوت جاهزة لمن دمرت بيوتهم، أو على وجه الخصوص للمدارس كبديل مؤقت عما دمرته الحرب الإسرائيلية من معاهد ومؤسسات تعليمية كبرى ومدارس، سواء في ضواحي بيروت أو في الجنوب والبقاع وأنحاء أخرى من لبنان.
لقد رمت السلطة أمام الناس أرقاماً مضخمة للمساعدات والمعونات العربية والدولية، ففرحوا ولهجت ألسنتهم بالدعاء للمتبرعين، وطيّروا البرقيات والعرائض ونشروا إعلانات الشكر وحفظ الجميل لمن أكدوا صدق أخوّتهم من الواهبين… فلما احتدم الجدل حول وجهة صرف هذه المبالغ التي جاوزت مليار دولار، نقداً، فاجأت السلطة مواطنيها بأنها لم تتسلم من ذلك كله إلا ثلاثين من الفضة!
وهكذا باتت دول مثل السعودية والكويت والإمارات وقطر في مواجهة ضحايا الحرب الإسرائيلية: فإما أن هذه الدول لم تكن جادة أو صادقة حين أعلنت، رسمياً وباسم كبار المسؤولين فيها و المؤسسات ، عما تريد تقديمه للبنان، وإما أن هذه السلطة تحتجزه لاستخدامه في أغراض سياسية، بينها معاقبة المقاومة وتأديب جمهورها واستعداؤه عليها..
.. فكيف إذا ما أكدت هذا النهج بتطهير مواقع الإمرة في السلطة من أي نصير للمقاومة، ومرة أخرى بتغليب الطائفي لطمس السياسي في مثل هذا التصرف.
لهذا لم تنفع محاولة ابتداع حل لبناني للمسألة، حين تبرّع الشريك الرسمي في السلطة والشريك الضمني في المقاومة بوصف الحكومة بأنها المقاومة السياسية ليجد أرضاً مشتركة بين أهل السلطة وأهل المقاومة..
فما كتب قد كتب، في الداخل بداية، وفي الخارج أساساً، وها هي الحكومة حكومة والمقاومة مقاومة، والسياسة ملعب خصومات ونكايات وأحقاد وتواطؤ على صورة لبنان المنتصر بصموده وعلى أهله الذين دفعوا من دمائهم وعمرانهم وأرزاقهم ثمن هذا الصمود.
ذلك أن السلطة في الكيان لا تهتم كثيراً للشأن الوطني، لأن ما يشغلها هو التوازنات الدقيقة بين مواقع الطوائف في النظام، فأي خلل فيه يحرك الدول بوصفها الضامنة لهذه التوازنات… وفي ظل هذا القانون السائد فمن الضروري أن تصنّف المقاومة بطائفتها حتى يسهل الطعن بتمثيلها اللبنانيين جميعاً، ومن ثم الطعن بأهدافها الفعلية . وإذا كانت طائفة بالذات قد اختارت المقاومة فمعنى ذلك
أنها خرجت على الكيان، وعلى الصيغة الحافظة له ، ومن ثم فإن موقعها في السلطة لا بد أن يتغيّر نزولاً…
? ? ?
في الكيان و مع سلطة الطوائف لا يمكن أن يكون العدو واحداً.
وهكذا عرفنا، عبر العقود الثلاثة الأخيرة، قوى سياسية ترى سوريا أولى بالعداء من إسرائيل، ثم تراها مرة أخرى ضامنة لوجودها، وقوى أخرى ترى في الفلسطيني العدو المبين، وقوى ثالثة تجمع بين السوري والفلسطيني وقد ضمت إليهما الآن الإيراني في خانة العداء التي سرعان ما سوف توسعها لتدخل إلى حرمها المقاومة!
ولأن السلطة توازنات دقيقة داخل كيان قد يبدو شديد الهشاشة ولكنه فعلياً يستعصي على الكسر، فقد بُعثت قوى سياسية من النسيان، وألبست لباس الشريك الديموقراطي وعينت بالتواطؤ ممثلة لطائفة لا ينقصها من يمثلها… قوى يبدأ مجدها الذي تُباهي به علناً في عين الرمانة فلا تجد حرجاً لا في التباهي بتفجير الحرب الأهلية، ولا برحلة التيه في اتجاه إسرائيل التي وفرت لها الوصول إلى سدة الرئاسة بقائد قُتل على بابها وآخر قَتَلها قبل أن يخرج من ذلك الباب… وهي ما تزال معتلة منذ ذلك اليوم!
ولأن السلطة توازنات دولية، فإن الأحجام لا تؤثر فيها، وقد يغدو الأضأل حجماً أقوى نفوذاً من الكثير عديده لأنه نقطة ارتكاز بقدر ما هو نقطة تقاطع بين الدول التي تفضل الأقلية على الكثرة ومن الأقليات الأقل عدداً والذي بسبب كونه نقطة الارتكاز يصبح ركيزة للكيان ومن ثم للسلطة و الدول ذات المصلحة في استمرارها.
ربما لهذا كله يظل شبح الحرب الأهلية محوّماً في أجواء الكيان … وحتى الحرب الحقيقية مع العدو الحقيقي ، تستدعي هذا الشبح في حين أن المنطقي أن تستدعي الوطن ومعه الدولة التي يبدو أنها ستبقى دائماً في موقع الحلم، فكيف إذا ما أسبغت عليها صفات القوية والقادرة والعادلة التي ندُر أن تحقق إجماع القوى السياسية (الملخصة للطوائف) كما اجتمعت بسيوفها عليها!

Exit mobile version