طلال سلمان

لبنان المئة عام… غير مأسوف عليه

لا وقت لوداع لبنان. مئة عام من التاريخ تساوي مأساة. ليس في ما مضى ما يفيدنا. تجربة فاشلة، كيان فاشل، دولة فاشلة، شعوب فاشلة. يستحسن ألا نتفاءل بالآتي ولا يليق أبداً أن نحتفل بجثة “وطن”. لم يبق من “الحلم اللبناني” ومن “الريادة اللبنانية”، ومن “المعجزة اللبنانية” ومن… ومن… غير الركام وما تبقى من وهم الكلمات… لبنان هذا عاش معتلاً. لم يكن قابلاً للحياة مئة عام كاوية. المدائح التي صيغت في التغزل بلبنان، كالقحباء التي تحاضر في العفاف. ما قيل فيه لا ينتسب إليه أبداً.

ليس تشفياً من لبنان أبداً. كان من الأفضل أن يشق طريقه ليصير وطناً، وشعباً، وثقافة، وعطاء، ونجاحاً، وحكماً، وقضاء، واقتصاداً، وتربية، وبيئة، وسياسة ومستقبلاً… لقد خاننا هذا الكيان الفريد. لقد امتهن الارتكاب إلى درجة أنه كان بحاجة دائمة إلى من يعالجه من الخارج. ولا مرة كان لبنان مستقلاً، سيداً، حراً وعادلاً.

العلة في الأساس. ولادته حملت إرث الزنى الطائفي. لم يكن ابناً شرعيا. لقيطاً كان. يحمل إرث القائمقاميتين. قيل: فليكن “لبنان الكبير” كياناً للموارنة. الولادة ناقصة. بحاجة إلى إثنين. أضيف إليه المسلمون. حضر السنة وطالبوا بحصة. أعطوا أقل منها. الدروز ورثوا ما كان لهم إلا قليلاً. الشيعة تم تغييبهم …هكذا ولد لبنان. إنه للطوائف بحصص غير متوازنة ومجحفة. الموارنة اولاً، السنة خامساً، الدروز: سابعاً، الشيعة أخيراً. قسمة فتنوية واندلعت مذاك معارك المحاصصة. فلبنان ليس دولة واحدة أبداً.

هو مجموعة دويلات، ولكل دويلة طائفة، ولكل طائفة حماية، ولكل مناسبة خلاف… اخترعوا ميثاقاً وطنياً بحاجة إلى حراسة دائمة من طعنات الطوائف المغلوبة أو الغاضبة.

مئة عام من الفشل. فماذا بعد؟ هل يمكن إعلان موت لبنان؟

لا شماتة البتة. لبنان الراهن لا يُطاق. صار كيانا هجيناً وهمجياً. بحاجة إلى عناية فائقة. برعايات ووصايات دولية وعربية، وإلى تلبية القوى الخارجية المتعادية… نتجرأ على القول، لبنان اللبناني، لم يكن لبنانياً إلا نادراً. إن كيانا مُعاداً لأعداء في الداخل والخارج. هو موقع لإقدام الآخرين. ولا مرة كان مستقلاً عن… كان معتلَّاً ومنقسماً ومفتنوناً بلعبة الدم. حروبه، ليست حروباً تخصه. هي حروب لحساب الآخرين. لم يكن ذلك غريباً. فلبنان مأزوم الولادة، منذ البداية، يعيش في بيئة مأزومة، ومحيط مأزوم ووسط الأشقاء الأعداء، وعلى فوهة من الجبهات المتاخمة لدولة الاغتصاب الصهيوني… حاول لبنان أن ينأى، فانفجر. حاول أن يتغيب، فحضرت القضية كلها. حاول أن يساهم، فانقسم وما زال.

نصوصه غير صالحة للاستعمال، لذا، لا دولة ولا سيادة ولا استقلال.  حكمه سليل خبراء الصفقات والتسويات. إذا اختلت التسوية. سالت دماء واستحضر “الأشقاء” والأعداء معاً. صار لبنان أرض نزال القضايا. نسينا حروبه؟ لا. تناسينا. إنها محفوظة عن ظهر قلب. لكل طائفة فلسفتها السياسية وميولها العابرة للحدود. فنحن لبنانيون قليلاً جداً. وغربيون بنسبة عالية، وسوريون في مرحلة مأزومة، وناصريون من قبل، وفلسطينيون من بعد، وكل صاحب مال دائماً، في دول الخليج المتعادي.

لبنان هو الابن الشرعي لكل هذا الزمن. ولا مرة كان لبنان لبنانيا. حتى ولا مرة كان محايداً. حتى ولا مرة كان ممتثلاً للميثاق الوطني. لبنان ذو وجه عربي؟ لبنان مثل اقنعة البربارة.

هو ابن الخطيئة السياسية الأولى. وليد لقيط. شعبه متشعب الولاءات، ومضاد للنشيد الوطني، فليس أحد يدعي أن “كلنا للوطن، للعلى للعلم”. تحت مخدة اللبناني كتاب مرجعي، يعود اليه في أحلامه ويقظته.

العلة الكبرى، أن لا احد اقتنع أن لبنان ليس رسائل ولا رسالة. بل صندوق بريد لرسائل الآخرين.

أما بعد… ولأن لبنان هذا هو كذلك. فلقد كان نظامه وحكمه وسياسته لا تمت إلى الدولة وموجباتها بصلة. فلبنان النظام كان كارثة. كل مؤسساته ووزاراته وحكوماته خاضعة للمحاصصة. وهذا أمر طبيعي جداً ومنطقي جداً. في دولة ليست لأحد وحده، اي لشعبه. لذا، كان الفساد هو القاعدة.

لبنان، فساد منظم وليس نظاماً فاسداً. النظام الفاسد يمكن اصلاحه، أما الفساد المنظم، قاعدة الحكم في الدولة، فلا شفاء منه. فدين الدولة الفساد. والفساد ماروني وسني وشعيي ودرزي و…و… إلى أصغر طائفة في لبنان. لذا، ولا مرة كان لبنان وطناً. كان سوقاً للبيع والشراء والمقايضة والعراك والإنهاك.

مئة عام من العنف والدجل والسرقة والنهب وانعدام كامل للحق، وقضاء مغمض العينين على الفواحش المالية والسياسية .

ترى: أين ينام الموتى؟ أين سينام اللبنانيون؟ هل يرزقون كياناً سياسياً مدنياً، ديموقراطياً، فيه قضاء ومحاسبة وولاء لقضايا عادلة، داخلياً وخارجياً؟

يصعب ذلك، لذا، فليتغمده الله بوافر غضبه. سنبقى أيتاماً بانتظار وطن يكون أماً لجميع أبنائه.

أخيراً. متى تشرق الشمس علينا؟ حتى يموت هذا الميت نهائياً.

Exit mobile version