أعطيت صفات كثيرة للبنان. تنزع هذه الصفات إلى تكوين صورة بهية له. ثبت أن كل المحسنات الجمالية كاذبة، لعل أفدحها: لبنان الرسالة. التدقيق في الأحوال اللبنانية يفضي إلى يقين، برهنت عليه مسيرته، ودللت عليه الوقائع المتتالية وابرمتها الحالة الراهنة، أن الصفة الأكيدة الملازمة للبنان أنه دولة فاشلة بنظام متين، راسخ وأصيل.
لا إهانة في ذلك. لبنان هو كذلك. قوته، ليست في ضعفه، بل في متانة طوائفه ومذاهبه. البرهان على قوة لبنان، بنظامه الطائفي، انه استعصى على الإصلاح، وأنه كان أقل طائفية، وانه كان يخجل بهذه الصفة، ثم اصبحت الطائفية الهدف الأسمى للطوائف كافة…واضح، أن اللاطائفيين والعلمانيين والعقائديين واليساريين والقوميين والليبراليين قد فشلوا فشلاً مذلاً، ولم تُجدِ لا التظاهرات ولا اعتصامات ولا الاحزاب ولا المعارك العسكرية. لقد خرجت منها الميليشيات الطائفية منتصرة، فانقضت على “الدولة”، واحتلت فيها مواقعها، بجدارة الانتماء الغريزي البدائي، للطائفية الناهضة.
هذا الكلام، توصيف لا تحليل. لبنان لأهله، وأهله طوائفه فقط. الطائفية في لبنان، ليست في نظامه السياسي. انها سبب وجوده. لولا الطوائفيات، لما كان لبنان. أنشئ الكيان بإرادة مارونية فرنسية أولاً. لم تكن ولادته هذه كافية لتأمين قوتِه الغذائي والسياسي. تمورن السنة ثم الشيعة، وقبلوا المقايضة: التخلي عن القومية مقابل حصة في الدولة، قبل النظام. لبنان، نشأ وكان وتربى وترعرع وافتتن وأقتتل وتعافى، بأسباب طائفية داخلية، لها استجابات في الاقليم والغرب… لو كان النظام وحده طائفياً، لتمكنت القوى العلمانية منه. الطائفية هي رسالة واساس وهدف هذه البقعة الجغرافية التي دعيت لبنان الكبير، اولاً، ثم لبنان “الحاف” تواضعاً.
ألم يتعب دعاة التغيير والاصلاح من اعلان ذلك؟ ألم يدركوا بعد أن وسائل نضالهم إلى تراجع وضياع؟ تغيير النظام الطائفي مستحيل بأدوات تصلح في الدول الديموقراطية قليلاً.
إذا اهتزت الصيغة، يهتز الكيان، وليس النظام. النظام صورة عن الكيان. علة لبنان هي في وجوده هكذا. مع فارق دقيق، أن الذين قبلوا هذا الكيان، حُباً او كرهاً، تركوا فيه ثغرة اساسية يمكن النفاذ منها إلى الدولة العلمانية الديموقراطية. الدستور اللبناني، الفرنسي الأصل، ليس طائفياً. هو دستور علماني. لا دين للدولة فيه، ولا دين لرئيس الدولة او لرئيس الحكومة لو لرئيس مجلس النواب. الحرية مُصانة. الديموقراطية العددية واضحة. الانتماء إلى اللبنانية وطناً، مؤكدة، وأن المادة 95، مؤقتة جداً، في التوزيع الطائفي تأكيداً على عدالة التمثيل والمشاركة.
ماذا حصل؟
انتصر منطق اساس الكيان على طبيعة النظام. انشأوا الميثاق الوطني، والذي استبدل الديموقراطية بالتوافقية. علماً، أن التوافقية يومذاك، كانت مقتصرة على مسائل محددة، لكنها هامة: لا سلطة تعلو سلطة المشاركة المسيحية الاسلامية لتقرير المصير ولصيغة السلطة وممارسة الحكم.
ثم راحت التوافقية تقضم الديموقراطية وتستبعد العلمانية او المدنية وتقدم الحقوق الطوائفية على النصوص الدستورية. الطائفية أولاً، ثم الكيان. الاختلال الطائفي يهز الكيان. يحرك الشارع. يثير الغرائز. وهكذا انتصرت اسباب نشوء الكيان على مندرجات وبنود وفقرات الدستور.
وكان ما كان. فتن. معارك. حروب. أحقاد. تحالفات خارجية. عنف. تزوير. عسكر. ميليشيات. حرب مديدة طائفية. دمار وخراب. تهجير وهجرة. قتلى ومخطوفون وجرحى ونازحون… انهار البلد بأسباب طائفية، ثم أعيد “بناؤه” (الانتباه إلى المزدوجين) على توازن طوائفي مزغول، وليس صحيحاً أن النتيجة كانت لا غالب ولا مغلوب. هناك غالب ومغلوب. وتنبه أهل الطائف، والدماء تسيل، إلى ضرورة فتح كوة في النظام، لإرساء الكيان على الدستور المدني، بلا أعراف وتوافق.
أقروا بإلغاء الطائفية والطائفية السياسية، عبر هيئة عليا يوكل اليها الدراسة وتقديم الاقتراحات، على أن يترافق ذلك، قبل او بعد، بإجراء الانتخابات وفق قانون انتخابي لا طائفي، على أن تمثل العائلات الروحية في مجلس الشيوخ. وهكذا تُعزل الطائفية عن السياسة والقوانين والحياة الاجتماعية.
عبث، لم يأتِ أحد بعد اتفاق الطائف على ذكر هذه المرحلة الهامة.
في هذه الاثناء، كانت القوى المدنية والعلمانية قد خسرت معاركها العسكرية، ولم تدعَ إلى وليمة السلطة إلا كملحق او كنائب بالأجرة.
فليعتبر اصحاب مشاريع التغيير قليلاً.
التغيير، ليس غداً وليس بعد سنوات ولا عقود إلا إذا تواضع المواطنون، وقطعوا مع الطائفة والطائفية، واعتمدوا برنامجاً بعيد المدى، خارطة الطريق فيه، اتفاق الطائف وتطبيق الدستور وإلغاء الاعراف ومبدأ التوافق المخادع.
إن لبنان الراهن قوي جداً. جداً. جداً. الا ترون الطوائف قد باتت، قوية، جداً جداً جداً… وان خوارج الطوائف هم شتات.
هذا البلد لمن كان له ويستحقه. لقد استحقته الطوائف. فهو لها. وعاثت فيه ما هب ودب من مساوئ وجرائم وفساد و… إلى اخره.
قليل من الأمل، إذا قلنا، مستقبل لبنان ليس غداً ولا بعد غد. مستقبله بعد عقود من النضال بشعار واحد لبنان الدولة الحديثة: تطبيق الدستور بحرفيته وتنفيذ اتفاق الطائف.
ما عدا ذلك… نضال بلا أفق. ثم، كيف لنا أن نتصور لبنان علمانياً في اقليم ديني، طائفي، مذهبي، عنصري؟
ما زال الوقت باكراً جداً على التغيير.