طلال سلمان

لا ناصرية بل عروبة…

هو لقاء آخر للاقليات العربية في البلاد العربية، وبيروت، هذه المرة، هي الحاضنة باعتبارها مهجع الذكريات وحافظة تاريخ الزمن الجميل.
وكالعادة، يسهل معرفة من سيجيء، ومن سيتكلم، وان قل السامعون.
وهكذا استنفرنا بالهاتف، فكان علينا أن نجيء ولو بغير الاستعداد الكافي لندوة فكرية،
وعذراً ان اتسمت كلماتي بكونها اقرب الى الخواطر العجلى منها الى الدراسة او البحث الموثّق او الإجتهاد في تركيز الافكار المطلقة.
واولى الملاحظات من واقع هذا اللقاء:
مما يفرح ان يكتمل العنقود بوجوه كانت مفتقدة من قبل، بعيدة او مبعدة، اما نتيجة خلل في الحوار، واما بسبب الحواجز التي كانت تمنعه او تجعله مستحيلاً.
وجميل ان تحل الندوات الفكرية محل المهرجانات الخطابية كاطار للاحتفال او لادامة جمال عبد الناصر وثورة 23 يوليو.
لعله ارتقاء من اللسان الى العقل، من الدويّ الى النقاش الهادئ، من دغدغة العاطفة الى استفزاز الفكر بالاسئلة المقلقة والتائهة اجوبتها بعد.
ü ü ü
لقد استنزفت ثورة 23 يوليو حتى الثمالة،
وأُنهك جمال عبد الناصر لشدة ما أُلقي عليه من مهمات واثقال زادت بعد رحيله عما كانت عليه في حياته.
ما زال بعضنا يحاسبه وكأنه القائم بالامر الآن،
وبعض آخر جعله واحداً من اولياء الله الصالحين، يزور ضريحه ليطلب شفاعته في تحقيق ما قصّر عن إنجازه من طموحاته والاحلام،
وبعض ثالث كان يتخذ من وجوده ذريعة للقعود نراه اليوم يتّخذ من غيابه ذريعة للقنوط، وهو في الحالين لم ينفع عبد الناصر حياً ولن ينفعه ميتاً.
وثمة من امضى ربع القرن الاخير في لوم عبد الناصر لانه مات وحمّله مسؤولية التقصير،
ولقد بدّل كثيرون مواقعهم، تحت ستار الواقعية او المراهقة الفكرية، فوفّروا لنا الفرصة الكاملة لكي نرى جمال عبد الناصر بتمامه، وامكن بالتالي ان نعيد تأسيس العلاقة مع ما تبقى منه في الفكرة القومية.
تركوه وحيداً، وهذا انفع للناس اذ بات المعيار: بمدى القرب منه او البعد عنه، تكون الشهادة بالعروبة وبالاخلاص في ارادة الخير العام، وفي حض الرجال على الامساك باقدارهم بايديهم.
ü ü ü
لعل اخطر ما مر بنا ان الفكر القومي قد تقاعد بمجرد وفاة ممثله المفترض في الحكم جمال عبد الناصر.
هل العيب في انه كان قد تصاغر عن الرمز الذي اصطنعه، فلما سقطت منه السلطة لم يستطع ان يستعيد الشارع الذي كان قد غادره قبل زمن لينشغل بالدفاع عن الحكومة والتي تأخر كثيراً في اكتشاف حقيقة انها لم تكن حكومته؟
في المراوحة بين عبد الناصر ـ الثورة وعبد الناصر ـ السلطة، عبد الناصر ـ مجسّد الفكرة، وعبد الناصر ـ المؤسسة الحاكمة بكل ثقل اجهزتها وتخلّف اساليبها، ضاع الفكر القومي فلا هو استطاع البقاء فوق السلطة مطهراً من وجوه ترديها وضيقها بالنقاش وتحايلها على الشعار برفعه رياء بينما الممارسة تغتال مضمون الشعار وحمَلَتَه والمؤمنين به، ولا هو استطاع التبرؤ منها، ولا استطاع بالطبع ان يسقطها او يهيّىء لاسقاطها ولو بعد حين.
ومع أن نظام عبد الناصر كان صريحاً في عدائيته لثورته، إلا ان الفكر القومي ظل يتعاطى مع ذلك النظام وكأنه غاية المنى، طاهر مطهّر ونموذجي في تجسيده للحلم العربي في الدولة الواحدة، دولة الانسان الذي لم تكن له في اي يوم دولة تنتمي اليه وتجعله يحقق ذاته عبر الانتماء اليها.
ü ü ü
فجأة، مع الهزيمة، استفاق دعاة القومية الى خطأهم الشنيع في الدمج بين الرمز والاداة، بين الفكرة والشرطي، بين الحلم والعسكري، بين نزعة الحرية واجهزة القمع، بين الشوق الى النصر، والجيش المحترف والمترهّل تحت اعباء الالقاب والرتب والاوسمة المجانية.
وهكذا اهتز اليقين فافرنقع القوميون اشتاتاً ومزقا بين اقصى اليسار في ما يتجاوز الاممية، وبين اقصى اليمين في ما يتدانى عن الكيانية التي لا تلبث ان تتهاوى في المستنقع الطائفي،
وكانت واحدة من الفرص التاريخية للقائلين بان الدين هو الحل، فهبوا لاخذ الشارع المهجور، بعدما انشغل الورثة في تناهب التركة: اي الحكم مجرداً الآن من القومية، بل من الوطنية، ومهيئاً لان يمضي قدماً في الطريق الخطأ: نحو الصلح مع العدو.
ü ü ü
الدين؟!
لعل واحدة من معضلات الحركة القومية انها لم تنجح في تحقيق المصالحة ومن ثم المزاوجة البديهية بين الدين والعروبة.
لقد كوفح الدين، وهو بين مكونات الوجدان في الانسان العربي، بذريعة ان بعض دعاته او المتاجرين به سخّروه لاغراض سياسية معادية للثورة.
تُرك الدين خارجاً، فجاءت التعبيرات عن الفكرة القومية شوهاء، فيها من التغرّب اكثر مما يجب، وفيها من الغربة عن حساسية الناس المولودين في قلب التاريخ والذين يستوطن الدين اسماءهم والذاكرة، اكثر مما يجوز.
وعبر التصادم بين العروبة والدين تشكلت تيارات وولدت قوى هجينة، مستعدة لان تنحر القيمتين معاً من اجل سلطة تافهة في ظل الهيمنة الاسرائيلية ـ الاميركية.
ü ü ü
خمس وعشرون سنة ولمّا يمت…
وما كان جمال عبد الناصر ليبقى في ضمائرنا كما في لغتنا اليومية لو انه كان واحداً من هؤلاء الحكام.
ان ما بقي منه هو ذلك الذي لم يتمكن دائماً من ان يكون داخل السلطة وفيها، والذي استمر يوحي بشيء من التمرد عليها ويحاول بين الحين والآخر تطويعها فينجح مرة ويفشل مرات.
وكثير من الحكام، قبل عبد الناصر وبعده، اموات وهم على عروشهم.
ü ü ü
يجب ان ينتهي الالتباس.
يجب ان نقتل صورة الحاكم في عبد الناصر، وان نخلّص الرمز فيه من اخطاء نظامه وخطاياه،
وهذا لا يتم بالتماثيل والتصنيم والتأليه والاكتفاء بالشعور باليتم والتفرّغ للندب والرثاء واستبكاء المسحوقين بهمومهم التي اصطنعها ويفاقمها يومياً ورثة عبد الناصر ومقلّدوه والأبناء الشرعيون لنظامه، وهم ليسوا فقط غيره بل انهم ضده شخصاً ورمزاً.
يجب ان يستعيد الفكر القومي العربي اعتباره، وان يتخطى جمال عبد الناصر وثورته التي قادتها البديهة اكثر مما وجّهتها العقيدة، وسيّرتها الظروف صعوداً وهبوطاً اكثر مما رسم لها المنهج والتنظيم خط سيرها الى أهدافها.
ان الجمود يكاد يشي بعقم الفكر القومي،
وهذا التهالك على طلب السلطة بصورة جمال عبد الناصر يؤذي الفكرة ولا يخـدم ذكـرى القائـد العظيـم.
لا ناصرية بل عروبة.
فلا وجود لجمال عبد الناصر خارج العروبة،
وادعاء الناصرية هرب من المهمة الملحة: إغناء الفكر القومي بمراجعة اخطاء التجارب التي تدرّعت بشعاراته ثم انحرفت لترمينا في صحراء الهزيمة واليأس من الحروب الخطأ في المكان الخطأ والتي اودت بنا الى نوع من الانتحار الجماعي،
لا ناصرية بل عروبة،
لم يبدأ الفكر القومي بجمال عبد الناصر ولم ينته به، ولا يجوز ان نعتبره الكلمة الاولى والسطر الاخير.
وظلم لعبد الناصر ان نطالبه ونحاسبه وكأنه مبتدع العقيدة وصائغ شعاراتها ومحقّق او المقصّر عن تحقيق برنامجها العتيد.
لا ناصرية بل عروبة،
وما أبعدنا عنه بعد ثلاث واربعين سنة من ثورته، وبعد ربع قرن من غيابه… ما أبعدنا، لكأننا في الماضي وهو في الغد.
ü مداخلة افتتح بها رئيس تحرير «السفير» طلال سلمان الندوة الفكرية في الذكرى 43 لثورة 23 يوليو التي نظّمها حزب الاتحاد في بيروت.

Exit mobile version