طلال سلمان

لا عيد عرب في زمن موت

لا أثر للعيد في قاهرة المعز! تماماً هي في حال من الهوان والتأزم مثل سائر العواصم العربية، مشرقاً ومغرباً… ولا مجال للتوهم بأن الأول من كانون الثاني (يناير) المقبل هو بداية لزمن مختلف، خارج الانسحاق تحت وطأة الإذلال بالهزيمة المستدامة، بلغة المؤسسات المستولدة حديثاً من صلب الأمم المتحدة، والتي تنفق كثيراً من الأموال لتقول للدول الفقيرة والمستضعفة إنها قد فقدت فرصة الانتساب إلى العصر، وإن عليها أن تلتحق بالركب المتقدم تحت لواء القيادة الأميركية، في اقتصادها كما في سياساتها وفي لغتها وآدابها حيث لم يتبق من مجال لثقافة أخرى غير تلك التي تصطنعها أو تستولدها القوة، أميركية خالصة أو مطعّمة بشيء من »الشارونية« مالكة الحاضر والمستقبل وما بينهما.
لا أثر للعيد في القاهرة، ولا مجال لأن يتجول مع ساعة الفجر موزع الهدايا الأعجمي الإسم الغربي السمات، على حصانه ذي الأجراس، ولا مجال خاصة لأن يتدلى عبر مداخن المدافئ ليترك لكل طفل في حذائه بعض ما كان يشتهي أو يتمنى أو يحتاج فعلاً من ألبسة وكتب للقراءة فضلاً عن الألعاب.
طبعاً لا أثر للعيد أيضاً، وعلى وجه الخصوص، في المبنى الذي كان يستمد من »معز« القاهرة مكانته ودوره، فإذا جامعة الدول العربية »مرجع« بشكل ما، للمصالحة، أو للتضامن، أو لقرار موحد صياغة يتلاقى فيها المختلفون لكي يجددوا اتفاقهم بشيء من التنازلات المتبادلة، تحسباً لتعاظم التطورات المفتوحة على الخطر، أو لكي يحددوا الحد الأدنى الذي لا يمكنهم أن يتنازلوا بعده، فيتوحدوا ولو في التفاوض.
وبقدر ما كانت ذروة المأساة الإنسانية في العالم »إيرانية« عشية انتهاء السنة 2003، ولبنانية من بعد، فإن ذروة المأساة السياسية في بداية عالم القرن الحادي والعشرين تظل »عربية« بامتياز.
ولأننا »شرقيون«، وبالتالي »قدريون« فإن الفوارق بين مأساة إنسانية تسبّبت فيها عوامل طبيعية، كالزلزال الذي ضرب إيران، وبين مأساة أخرى هي في حقيقتها »جريمة« بكل المعايير، تمحي حتى تكاد تنعدم من خلال التسليم (المفروض؟!) بالقضاء والقدر، على قاعدة »هذا نصيبنا.. والمكتوب ليس منه مهروب«!! و»هذه مشيئة الله، سبحانه وتعالى«، وصولاً إلى »لا ينفع حذر مع قدر« وانتهاء بالمقدس الديني »… وإذا جاء أجلهم لا يستقدمون ساعة ولا يستأخرون« أو »لا تدري نفس بأي أرض تموت«.
وفي بلاد أخرى كان يمكن أن يتحول سقوط الطائرة، المخالفة بمواصفاتها وعمرها وصيانتها، لكل قواعد الطيران في العالم، إلى محاكمة هائلة تمتد من الكليات إلى الجزئيات وبالعكس: من النظام السياسي في بيروت الذي يشكل بفساده قوة طاردة للشباب من نعيم الوطن، نتيجة للأزمات الهائلة التي يستولدها على مدار الساعة وعلى المستويات كافة الاقتصادي والاجتماعي والتربوي والثقافي، فضلاً عن انتخابياته وديموقراطياته ومن يمثل من ولماذا ووفق أية معايير إلخ..
فبين الذين أودت بهم كارثة الطائرة التي لم يكن جائزاً أن تطير، مجموعات من الشباب الذين ضاقت بهم سبل العيش في وطنهم المفدى، فهاموا على وجوههم يبحثون عن أي مشتر لكفاءاتهم، أو عن أي مصدر للرزق في أي مكان، وبالتالي فهم ليسوا من جيل الرواد الأول أو أبنائهم الذين قهروا سباع الغابة وطوّعوا أنفسهم ليقبلهم الأفارقة تجاراً وأهل صناعة ومدرسين يعلّمون أبناء الأفارقة الذين وجدوا فيهم أقارب وأهل رحم، قبل ان يتعرفوا إلى الماس كمورد للثروة السريعة التي تنتهي عند »أولاد العم« من اليهود.
انها جريمة قتل جماعية بكل المعايير، وهي تمتد من بيروت إلى بنين وبالعكس، وتشمل مسؤولين كثيرين غير ظاهرين، فضلاً عن المتورطين المباشرين في السماح بأن تحمل الطائرة ما يتجاوز طاقتها، أو في تركها تطير بغير التأكد من صلاحيتها للطيران، وبأن تهبط في مطار بيروت الذي يعرف أهله ما يكفي لمنع الإذن لهذه الطائرة بأن تجيء اصلاً إلى مطار الغد في بيروت المستقبل!
لكنه الموت… وهو خبزنا اليومي في هذه المرحلة من هزائمنا الوطنية و»القومية«، في اليمن كما في السعودية وأنحاء الخليج، وفي العراق الذي يكاد يكون »أرض الدماء«، وفي فلسطين التي يكتبها العالم كما يكتبها أبناؤها بدمائهم، شيوخاً ورجالاً ونساء وفتية وأطفالاً بالكاد تعلموا المشي بين خرائب بيوتهم المنسوفة وجثث ذويهم الذين يتدرب طيارو شارون يومياً على ابادتهم بالقصف من الجو.
* * *
لا عيد في القاهرة، وهم الرغيف يكاد يصير هو العنوان للأزمة السياسية، وسط افتقاد الدور، أما الأزمة الاقتصادية فتشتد مع كل صباح وتضيِّق أكثر فأكثر على ارزاق الناس وعلى حركتهم وتكاد تفطِّس أملهم بالمستقبل… حتى انهم لا يجدون الوقت الكافي للتفكير بالكارثة الجديدة التي تطل عليهم من الباب السوداني، حيث بات التقسيم واقعاً لا ينقصه إلا التقنين الرسمي. كما انهم لا يفهمون تماماً مقاصد جارهم العقيد القذافي من مناورته »النووية« الجديدة، وإن كانوا يشعرون، في أعماقهم بأن نتائجها لن تحمل لهم أي خير، بل قد تأتيهم بويلات جديدة.
والأمين العام لجامعة الدول العربية تجاوز كونه ضحية لحب شعبان عبد الرحيم، الذي كان يحبه ويكره إسرائيل، والذي »اهتدى« الآن إلى ان العصر الأميركي حتى في الطرب الرديء لا يتحمل مثل هذه »العنصرية«، ويتبدى الآن وكأنه هدف السهام والسكاكين والسواطير جميعاً، بغير ان يتكرم مسؤول عربي واحد بالدفاع عنه، أو بالاحرى عن المؤسسة التي جرب عمرو موسى ونجح إلى هذا القدر أو ذاك، في اثبات انها ما تزال قابلة للحياة إذا…
فالأمين العام الذي ذهب ليتلقى العتاب ومن ثم الصفح في الكويت صالحه الكويتيون على مضض باعتبارهم المضيف لقمة مجلس التعاون الخليجي، في حين لم يصالحه بعض المسؤولين الشبان في حكومة دولة الامارات العربية المتحدة.
أما وفد الجامعة الذي ذهب أخيراً إلى بغداد، وبإذن خاص من سلطة الاحتلال الأميركي، فقد افتقد القدرة على القول، بينما »المسؤولون« العراقيون الجدد، المعينون من قبل الحاكم الأميركي، يكرزون عليه الوصايا والتعليمات حول كيفية التعامل مع عراق المستقبل الذي لن يكون عربياً تماماً، وإن كان سيعترف بالعرب كبعض مكونات الخلطة البشرية الغنية في أرض الرافدين.
* * *
لا مجال لأن »تكرج« عربة »بابا نويل« في شوارع البطالة والعوز والموت في هذه البقعة من الأرض التي كان اسمها »الوطن العربي«.
لا مجال للهدايا، لا للأطفال ولا لذويهم.
كل المجال للموت: موت الرجال والأطفال والآمال والأوطان والدول،
ففي العصر الأميركي لا بد ان تغير نفسك أو يتم تغييرك بالقوة.
أما الهدايا فيتكفل بها أرييل شارون.
مع ذلك سيكون لنا غد، متى حضرنا… وكل عام وأنتم بخير!

Exit mobile version