طلال سلمان

لا طريق غير ثورة

ها هي ذكرى نكبة 1948 تعود للمرة الخامسة والستين، وتعيدنا معها إلى الحلقة المقفلة للعجز العربي، تاركة فلسطين تبتعد عن مدى القدرة، تكاد تغرقها صفقات البيع والاستسلام ـ عربياً ـ والصراع على سلطة لا سلطة لها في الداخل الذي توزع بين الاحتلال الإسرائيلي و«سلطتين» فلسطينيتين لا تملكان ما يسد رمق الشعب فضلاً عن أن يحفظ أمل التحرير.
وإذا كانت النكبة قد كشفت الأنظمة التي كانت قائمة في العام 1948 واستفزت الجيوش التي دُفعت إلى الميدان بغير استعداد، وبالذات منها الجيش المصري، فقد كان رد الفعل الطبيعي خلع تلك الأنظمة التي تسبّبت في هزيمة عربية ساحقة، وفي انتصار إسرائيلي تجاوز أحلام «القادة المؤسسين» في الحركة الصهيونية.
وحيث لمس العدو الإسرائيلي جدية في الاستعداد للعودة إلى الميدان، فقد ركّز «حربه» على الجبهة الوحيدة المؤهلة، مصر، مستفيداً من تلاقي المصالح بينه وبين «الاستعمار القديم» ـ بريطانيا وفرنسا ـ . وكان تأميم شركة قناة السويس في 26 تموز 1956 الذريعة. وهكذا تواطأ العدو القومي، قاهر الإرادة، محتل الأرض، المزدهي بنصره على مجموع العرب، مع شريكيه في العدوان الثلاثي. لكن النتائج العملية جاءت انتصاراً للإرادة الوطنية.
على قاعدة هذا الانتصار وبشكل متعجل وغير مدروس، أقيمت دولة الوحدة، الجمهورية العربية المتحدة، من اندماج سوريا بمصر جمال عبد الناصر في 22 شباط 1958.
وكما ذهب العرب إلى حرب فلسطين وهم أضعف من أن يخوضوها فكيف بأن يربحوها، كذلك فإنهم قد أقدموا على الوحدة ـ الحلم قبل أن يستعدوا لتحمّل مسؤولياتها الثقيلة التي تعني صناعة تاريخ جديد للأمة جميعاً.
انتكست الوحدة، ووقع الانفصال، وانحطمت معها الآمال بمواجهة العدو الإسرائيلي، خصوصاً وقد أخذت ثورة 14 تموز 1958 العراق بعيداً عن الحلم العربي بالتحرير، بل جعلته أقرب إلى المعسكر الآخر.
لم يكن شعب فلسطين غائباً، ولكنه صار بعد هزيمة 1948 رهينة النظام الأردني، إذ صارت فلسطين «بعض» المملكة الهاشمية. على أن شباب فلسطين الذين كانوا يتحرقون إلى أداء دورهم في تحرير وطنهم، شكّلوا تنظيمات وأحزاباً عديدة، بعضها علني، وبعضها سري، ونجحوا في تشكيل قوات فدائية تسهم في معركة التحرير.
في مثل هذه الأيام من العام 1964، وفي القمة العربية الأولى التي دعا إليها عبد الناصر في القاهرة، أقيمت «منظمة التحرير الفلسطينية» لتكون ـ بهيئاتها المختلفة، مدنية وعسكرية واجتماعية ـ الإطار الجامع للعمل الوطني الفلسطيني في ظل احتضان عربي رسمي. لكن القائلين بالعمل الفدائي، وأبرزهم تنظيم «فتح» استمروا يعدون لحرب التحرير الشعبية. وفي العام 1969 تولت فتح قيادة المنظمة، وتقدم ياسر عرفات إلى واجهة العمل السياسي، بينما أكد تنظيمه الفدائي مع تنظيمات عديدة أخرى، أن الجيوش ليست هي المؤهلة للتحرير، بشهادة هزيمة 5 حزيران 1967، ولا بد من حرب التحرير الشعبية. لكن سرعان ما اصطدمت فتح، ومن خلفها المنظمة، بالنظام الأردني، فأُخرجت قواها العسكرية من الأردن وجاءت بها إلى بيروت (ابتداءً من 1968 ـ وبعد اتفاق القاهرة الذي رعاه جمال عبد الناصر بين الدولة اللبنانية وقيادة منظمة التحرير).
كانت مرحلة خصبة بنتائج مأساوية، إذ أن الصدام بين منظمة التحرير وأطراف أساسيين في النظام اللبناني، لم يتأخر طويلاً برغم أن هذا النظام هو من تولى تقديمها في الأمم المتحدة، مطالباً بحقوق الشعب الفلسطيني في أرضه…
تفجّر الوضع في 13 نيسان 1975، ودارت رحى حرب أهلية طويلة، سهّلت للعدو الإسرائيلي أن يدخل محتلاً في أوائل حزيران 1982. واحترقت بيروت، ولكنها لم ترفع الأعلام البيضاء. وأُخرجت المقاومة، بمساومات دولية وعربية، من لبنان ليتوزع مقاتلوها في مختلف أرجاء الوطن العربي، وإن اتخذت قيادتها من تونس «مقراً».
استمرت مسيرة التراجع، برغم اندفاع المنظمة إلى إعلان «الدولة» في 1988. وكانت ذروة التنازلات «اتفاق أوسلو 1993»، الذي سمح لقيادة المنظمة بأن تدخل بعض أرضها، وأن تتولى مهام الشرطة في مواجهة شعبها، الذي سرعان ما انشقت «سلطته» إلى سلطتين، الأولى في رام الله والثانية في غزة. وها هما «السلطتان» المتنازعتان تعيشان على الهبات الأجنبية والحسنات العربية، وقد تقزمت القضية نتيجة المساومات التي كادت تذهب بفلسطين جميعاً.
لكن شعب فلسطين ما زال في الميدان، وإن تواطأ عليه الجميع: سلطته وأهل النظام العربي الذين اندفع العديد منهم إلى الاعتراف بإسرائيل وإقامة علاقات ديبلوماسية واقتصادية معها، والطليعة معقودة ـ بعد مصر السادات ـ لقطر التي تبيع مع الغاز كرامة الأمة وحقوقها… وثمة ما يشير إلى أن دولاً خليجية أخرى تحاول حماية أنظمتها بالحليف الإسرائيلي القوي.
في 15 أيار من كل عام يخرج الفلسطينيون، حيث يسمح لهم في تظاهرات، وهم يحملون مفاتيح البيوت في الأرض التي اغتصبها منهم عدوهم.
وفي 15 أيار من كل عام يؤكدون أن قضيتهم تستعصي على النسيان.. في انتظار تجديد الثورة والوصول بالمفاتيح إلى أبواب بيوتهم.
… الآن، ومع صعود الإسلام السياسي الذي طالما زايد على المناضلين جميعاً في ادعاء الاستعداد للجهاد المقدس، يبدو مقدراً على الأجيال الجديدة من الفلسطينيين أن يخوضوا غمار انتفاضة جديدة، في ظل ظروف تشابه هزيمة العام 1948، إن لم تكن أقسى.
لكن لا طريق إلى فلسطين إلا الثورة التي لن يجد العرب عموماً غيرها طريقاً إلى مستقبلهم عبر المواجهة والتحرير مهما بلغت التضحيات.
وقديماً قال بن غوريون لمن حذره من ثورة الشعب الفلسطيني ما مفاده: «إن بعض القضايا تهرم وتشيخ وتموت هي الأخرى».
وشعب فلسطين حي لا يموت..

Exit mobile version