طلال سلمان

لا شيء يفاجئني

كان الخبر الأول في نشرات الأخبار الأجنبية ذات يوم من أيام الأسبوع الماضي والمقال المنشور في العدد الأخير من مجلة نيتشر (الطبيعة) عن توصل فريق من العلماء الصينيين والكوريين والأمريكيين إلى فصل بعض الجينات الناقلة لأمراض وراثية من الأهل إلى الأطفال وإحلال جينات أخرى جيدة محلها. سمعت الخبر وانتقلت للخبر التالي. لم أتوقف بين الخبرين كالعادة عندما يكون أول الخبرين صاعقا. الخبر الصاعق لم يفاجئني، أنا الذي كتبت قبل عقود محذرا من انغماس العلماء في بحوث توريث الذكاء الاصطناعي الفائق أو القوة العضلية المبهرة. وقتها خفت أن تقع نتائج هذه البحوث في أيدي حكام مستبدين أو مهووسين فتصدر أوامرهم للعلماء فينتجوا ميليشيات من بشر فائقي الذكاء أو حائزين على قوة عضلية أسطورية.

***

أعلنت شركة غربية أن منتجا إلكترونيا جديدا من منتجاتها سوف ينزل إلى الأسواق خلال أيام. الابتكار الجديد ـ الذي تعلن عنه الشركة بأسلوب عادي ومتواضع كأسلوب إعلان عن معجون أسنان جديد ـ لا يخرج عن كونه طائرة “درون”، أي بدون طيار، في حجم حشرة متوسطة الحجم، يحركها من داخل محيط قطره الكيلومتر أو أكثر محرك عن بعد (ريموت). تستطيع الطائرة / الحشرة النفاذ إلى الغرف محكمة الغلق تلتقط ما شاء لها أن تلتقط من الصور وأفلام الفيديو وتسجل ما شاء لها أن تسجل من أحاديث خاصة، أحاديث غرف النوم أو أحاديث مكاتب وقاعات اجتماع. لا شيء ولا أحد يهدد وجودها فهي مستعدة للخروج من حيث أتت إذا شعرت بالخطر على عكس الأجهزة المثبتة. أعرف من السوابق أن هذا النوع من الابتكارات لا ينزل إلى أسواق الاستهلاك المدني إلا بعد أن تتشبع حاجة المؤسسات العسكرية والاستخباراتية، أو تكون المعامل قد انتقلت إلى ابتكار أحدث وأخطر. معنى هذا أن مثل هذا الابتكار الذي يأتي مزودا بقدرات تخريبية هو الآن في طريقه إلى التنظيمات الإرهابية التي يقال عنها كما اتضح من حملة الرباعية لتأديب دولة قطر، أنها تحصل على دعم من حكومات دول أعضاء في الحلف الدولى لمكافحة الإرهاب. لم يفاجئنى هذا الخبر أو ذاك ـ خبر الطائرة الحشرة التي تباع بثمن لا يزيد على 200 دولار للواحدة منها ـ ولا خبر أنها قد تكون مزودة بآليات تفجير وتخريب، ولا خبر أن دولا في الحلف ضد الإرهاب كانت أو لعلها ما زالت تدعم داعش والقاعدة ومشتقاتهما بالمال والابتكارات الحديثة. أنا، كمواطن مصري ومواطن عالمي، لست متفاجئا.

***

في اليوم نفسه قرأت خبرا مثيرا آخر ولم يفاجئني. قرأت أن المملكة السعودية قررت تأهيل عشرات بل ربما مئات الجزر في البحر الأحمر الغني بثرواته البحرية من أسماك ونباتات، لاستقبال ملايين السياح الأجانب. لم يفاجئني الخبر لأننى كنت في انتظاره منذ أن أطلقت السعودية خطة 2030 التنموية، فهي من وجهة نظرى “خطة ثورية” ليس بما أعلنته ولكن بما تكتمته. سمعت مشجعا مطمئنا إلى أنه بانتهاء تأهيل الجزر لاستقبال السائحات والسياح سيكون الواقع الاجتماعي في المملكة قد تغير بتأثير خطة 2030 لصالح قبول المجتمع لهذا النوع من السياحة. مشجع سعودي آخر قال ما معناه إن الكتلة السكانية المحافظة تعيش في المملكة بعيدا عن شواطئ البحر الأحمر وغيرها من المواقع المرشحة لهذا النوع من السياحة.

***

شاهدت وقرأت تقارير عن تقدم ملموس حققته جامعات أوروبية وآسيوية يسمح لها بأن تعلن قريبا عن إنتاج إنسان آلي يؤدي معظم وظائف الإنسان “البشري”. تقول التقارير إنه لم يتبق أمامهم من أجل الإعلان عن هذا الإنسان الجديد سوى تفاصيل قليلة جدا. يأمل باحثون شاركوا في تحقيق هذا الإنجاز في أن يتمكنوا خلال سنوات قليلة من إنتاج جهاز عصبي لهذا الإنسان يسمح له بأن يحب ويكره، يتعاطف وينبذ، يداعب وينفر. لم تفاجئني هذه الأخبار فقد زرت في الخارج مستشفيات تستعد فعليا لإحلال الممرض الآلي محل الممرضة التي عودتنا أن نشفى على ابتسامتها وحنانها.

***

لا شيء يفاجئنا. أعتقد أن العلم صار أسرع من قدرتنا على اللحاق به. نكاد لا نفرغ من فهم واستيعاب إنجاز علمي حتى نجد أنفسنا مرغمين على التعامل مع ابتكار علمي جديد. استسلمنا لابتكارات بعينها، سلمنا لها قيادتنا وربما سيادتنا وحريتنا ووقتنا. انتهت عصور الرتابة والتغيير البطيء. أقارن بين السنوات الأربع التي قضيتها طالبا جامعيا في عقد الخمسينيات بآخر أربع سنوات أو بأي أربع سنوات خلال العشرين عاما الماضية. أذكر جيدا جدا أن لا شيء كبيرا أو كثيرا تغير على صعيد التكنولوجيا خلال مرحلتي الجامعية. التليفون الأرضي في مكانه وربما أضافوا إلى السلك طولا فصار ينتقل من غرفة إلى أخرى. عشت آخر أيام “الثورنيكروفت”، الأوتوبيس المنحني على جانبه يحك في سيره الأسفلت، وبدايات أوتوبيسات “أبو رجيلة” من طراز لم يختلف إلا في الشكل. فاجأتنا الشركة المسؤولة عن ترجمة الأفلام الأمريكية مفاجأة سارة ومذهلة حين أعفتنا من متابعة الترجمة على شاشة جانبية، واحدة على يمين الشاشة التي تعرض الفيلم وأخرى على يسارها. ثم تخرجت وجاء التلفزيون.

كنا نفاجأ بأي تحسين أو ابتكار في صنع أدوات منزلية ومكتبية. كنا متواضعين في تطلعاتنا التكنولوجية بل والحياتية عموما. الطالب يتخرج في الجامعة وفي الشهر التالى يصدر قرار تعيينه في الحكومة.

كانت البطالة استثناء، أي مفاجأة. الفتاة لا تتأخر كثيرا في مرحلة ما قبل الزواج. إذا تأخرت في العثور على من يناسبها تولت العائلة مسؤولية تزويجها، كنا دائما نتفاجأ بالفتاة التي لم تتزوج ونتفاجأ كلما سمعنا عن حادث طلاق. نادرا ما كنا نسمع في دوائرنا عن طلاق.

الآن، ليست مفاجأة أن نقابل صديقا أو ابن صديق عاطلا عن العمل فالعاطلون صارت نسبتهم في بعض المجتمعات ـ ومنهم مجتمعنا ـ تتجاوز ربع أو ثلث الشباب. الآن لا يفاجئني خبر عن طلاق زميل أو صديق أو قريب فما أكثر المطلقين في كل مكان. لم يفاجئني استعداد حكومات وكنائس عديدة للاعتراف بزواج المثليين والمثليات، فالعلاقات المثلية منتشرة بأكثر مما نتصور وهي أقدم في وجودها مما نتخيل. إنكار وجودها لا يعني اختفاءها. لم أتفاجأ وأنا أقرأ مقال “كاري جنكيز” عن الأساس الفلسفي لتعدد الأزواج. “كاري” تدافع عن حق النساء في تقليد الرجال الذين يقعون في حب أكثر من امرأة وترد على الذين يعتقدون أن المرأة بحكم طبيعتها وتكوينها العاطفي لا يحق لها أن تحب أكثر من رجل في وقت واحد. قلت لم أتفاجأ بالمقال مثلما تفاجأ بعض من أطلعتهم عليه. هناك في الغرب من ينظم حملات نسائية لنشر ما يثبت أن المرأة تمتلك قدرة على العطاء العاطفي المتنوع تفوق قدرات الرجل وتتجاوز حاجات شخص واحد، وبالتالي يحق لها ما يحق للرجل في هذا المجال.

***

تقول الرواية إن ملك فرنسا بعث بأحد مهندسيه إلى إنجلترا في عام 1830 ليشهد تدشين خط سكة حديد يربط مدينتي مانشستر وليفربول. وقف المهندس أمام القضبان والقاطرة البخارية مذهولا، أصابته المفاجأة بصدمة جعلته ينكر ما رأى ويكتب في تقريره أن الفشل مصير هذا الابتكار. تأخرت فرنسا وتقدمت إنجلترا. تقول رواية أخرى إن أهل قرية مصرية فاجأهم مشهد قطار يمشي على قضبان، لا تجره بغال أو يدفعه بشر ويقف عند مشارف بلدتهم طلبا للماء. كانت المفاجأة شديدة إلى الحد الذي جعل القرويين يفكرون في إعداد وليمة للقاطرة. لم تتكرر أحداث هذه الرواية ولن تتكرر فقد انقضى عصر الاندهاش ونعيش الآن في عصر فيه ما يبهر وليس ما يدهش أو يفاجئ.

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

Exit mobile version