طلال سلمان

لا تذهب بعيدا.. أنا على طريق العودة

تغيب وتعود. تلاقيا صغارا، هو الرئيس وهي المساعدة. دائما يسبق وصولها الاعتذار عن التأخير. لم يكن من عادتها الوصول إلى مكتبها متأخرة. التأخير في عرفها أن تأتي فتجد رئيسها قد سبقها. لم تغب يوما عن العمل أو عنه. بدأ الغياب بعد أن افترقت طرقهما. رحل مع من رحلوا. البعض منهم رحل لدواع اقتنع بها أو لحوافز لم تجد عزيمة تقاومها. البعض الآخر، أو الشخص وراء هذه السطور، تلقى رسالة غريبة المضمون من شخص في موقع المسؤولية ينصحه فيها بالرحيل، مع التفضيل بحبذا لو نفذ النصيحة خلال ساعات. افترق الرئيس عن مساعدته وعائلته ورحل، وتركت المساعدة عملها إلى عمل آخر ورئيس آخر.


مر من السنين أربعون. وفي يوم من أيام العام الأربعين راوده شك بعد قليل صار يقينا. هذه المرة غابت لمدة أطول من المعتاد أو المبرر. اتصل بالطرق المعتادة ولم تستجب. جرب الانتظار بروح التفاؤل فلم يفده واستمر الخاطر منشغلا. راح يوظف ذاكرته. استفسر عن مرات الغياب السابقة. متى غابت غيابا أسفر عن قلق كمثل هذا القلق وأكبر. قلق أكبر وأشد لأنه يأتي في أعقاب حلم متكرر ملئ بأسباب القلق. ظل لليال يحلم بطائر أسود يرفرف بجناحيه خارج نافذته. الجناحان أكبر من كل ما قابله من طيور بأجنحة مشرعة. يصدر عنها أصوات وهى ترفرف تثير الرعب في الثريا المتدلية من قلب سقف الغرفة. قطع الكريستال الأحمر تهتز بشدة فتتصادم لتصدر بدورها صخبا مزعجا. هو لا يراها فالظلام حالك. يتساءل في الحلم بغضب، ما حاجة غرفة نوم بثريا كريستال. غرفة نوم فيها من المصابيح الجانبية ما يغطي حاجتها.


في هذه الليلة الليلاء عاد الطائر كعادته. عاد مع دقات الساعة العتيقة المعلقة في غرفة الاستقبال. دقت كعادتها عند انتصاف الليل ولكن دقت هذه الليلة بإلحاح على غير عادتها. لعل الطائر الهائج خارج الغرفة يحمل رسالة. خُيل إليه أنه نهض من فراشه واتجه نحو النافذة. فتحها فتطايرت أوراق صغيرة في حجم القصاصات قدمت من كل صوب، أكثرها حملها الطائر وطيرها الجناحان العريضان. غطت القصاصات الفراش والسجادة الراقدة تحت جانب منه. انحنى ليلتقط قصاصة ثم راح يبحث عن نظارته الطبية. وجدها في غير مكانها وكانت أكبر من حقيقتها وأخشن، وضعها بصعوبة على هضبة أنفه ورفع القصاصة إلى مستوى القراءة. في اللحظة نفسها التفت فلم يجد الطائر وامتدت يدان غير يديه إلى النافذة فأغلقتها واختفت القصاصات إلا واحدة هي الآن في يده.


“يشقيني بُعدي عنك ويُبقيني سؤالك عني”. نعم وصلت الرسالة. قرأها وفي جسده رعشة. نهض من فراشه مذعورا. كل أطرافه تهتز. ضاق صدره بأنفاس مكتومة تعصى على الخروج. أكان غائبا عن الوعي أم أن كابوسه المعتاد عاد ولكن بطاقة أقوى وهدف محدد. أه.. الرسالة؟ أمسك فيها بكلتا يديه. كلا، لم يكن غائبا عن الوعي ولا كان كابوسا كالكوابيس التي لازمته لحين. مرت أسابيع وهو ينكر أن طاقة خارجية تحاول لفت انتباهه إلى أمر جلل. عرف بحسه وتجاربه أن خبرًا سيئًا يطوف ببيته وغرفة نومه. حدث خطير يَلح عليه أن يسمعه أو يراه. تَهرَّب خوفا من شر يلاحقه ولكن لم يتجاهل أو يهمل. نظر في هاتفه. أدار مفتاح راديو ترانزسيستور احتفظ به مع أشياء أخرى حبا وتقديرا. ارتدى ثيابه على عجل ليسأل ويستفسر ولم يلق جوابًا شافيًا بينما كل أحاسيسه تلح عليه أن ينظر في داخله.


غلبه النوم عند الفجر. نام بملابسه التي ارتداها على عجل بعد انتصاف الليل. استيقظ على إشارة تنبيه من هاتفه تبلغه أن مساعدته الغائبة منذ مدة حاولت الاتصال به خلال الليل أكثر من مرة. هل بلغها أنه يبحث عنها ويسأل عن سبب لغيابها وأنه لم يتوصل إلى إجابة شافية؟. مريضة ربما ولكن أي مرض هذا الذي يحول بين أن يلتقيا أو على الأقل يتواصلا. لا.. لا.. ليس المرض. ربما خلاف في العائلة. لا.. لا، لم يحدث على امتداد صداقتهما أن كشفت عن تبرم أو ملل في زواجها. شكت، نعم مثل كل النساء وعفت أو أهملت أو كبرت عقلها مثل نساء هى وهو يعرفانهن، ويعرفان أن لكل منهن أسبابها. لم تبرر يوما لإحداهن أسلوبها، هي نفسها كانت لها ظروف وأسباب. رائعة كانت هذه الزميلة والصديقة أليس كذلك. أقصد رائعة هي دائما أليس كذلك، كانت.. وما زالت. توقف للحظة. التقطت عيناه منظر قصاصة من ورق بلون السماء عندما تصفو. سأل نفسه مندهشا، هذه القصاصة كيف وصلت إلى وسادته. هذا الخط مألوف لديه. هل من علاقة بين الكابوس وغياب صديقته؟ هذا الطائر الأسود الذي لم يتخلف ليلة واحدة عن زيارة نافذة غرفة نومه مثيرا زوابع وصخب، كان في حد ذاته رسالة لم يفهمها. ليته عرض أمر الكابوس على متخصص منذ قام الطائر اللعين بأول زيارة لنافذة غرفة نومه. عاد القلق أشد وأقسى وعاد الجسم إلى رعشته والذهن إلى أفكار داكنة وفي الحلق غصص.


وبينما الحال كما وصفت أعلاه سمع رنين هاتفه رتيبا وناعما على غير عادته. بحث عنه في أنحاء الغرفة حتى وجده تحت كوم من ملابس نام بها وخلعها عندما استبد به القلق في الليلة الفائتة. أمسك بالهاتف بيد مرتعشة. لم ينطق بحرف. هناك على الطرف الآخر سمعها تناديه باسمه لتتأكد قبل أن تقول “أنا أيضا أشعر أن غيابي هذه المرة تجاوز حدود السماح. أعدك أن يكون اللقاء القادم قريبا. كنت أتمنى أن نلتقي في وقت مبكر، ولكني كما عرفتني أخشى عليك من القلق وما يجلبه لك من توتر وضيق تنفس. فكرت طويلا. لا أريد أن تراني وقد خلعت التاج الذي كان يزين رأسي ويثير إعجاب الغرباء والأقربين على حد سواء وأنت منهم. أعدك أنني سوف أعود. أعود يا صديق عمري عندما يعود شعر رأسي. آسفة.. أقصد التاج الذي خلعت لفترة ستكون قصيرة. أعود بعدها. أعدك أن أعود في أبهى صورة . لا تذهب بعيدا. أنا على طريق العودة. انتظرني”.

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

Exit mobile version