مئة عام أفلت، وكان حظ العرب من الديموقراطية، بمقدار حرمانهم من الحرية. قرن قبيح، ترسخت فيه العرقية والطائفية والمذهبية والديكتاتورية وساد فيه الفساد، من المحيط الى الخليج. جلجلة القمع حوّلت الكيانات الى قلاع من الصمت الشعبي، والى منابر سخيفة ومحمية، تبشر بفضائل السلطة، أما قادة العرب، فقد إنشغلوا بفائض السلطة وفي كيفية خفوت قوى المجتمع.
لماذا كانت حصتنا من الديموقراطية بخسة، ولماذا تطورنا الى الوراء حتى بلغنا حافة الانعدام؟
العالم العربي راهناً، لا وزن سياسياً له، ولولا النفط لكان العرب على حافة التسول. وراهناً، لدينا حشد عربي يتسوَل: لبنان أولاً. السودان كذلك. مصر متهافتة لمساعدات. سوريا في الحضيض. العراق الثري جداً مفلس ويجوع. ليبيا منهوبة ومدماة. تونس تبحث عمن يقدم ديوناً أو مساعدات، لأن الإفلاس يراودها، وما تبقى يتخبط اقتصادياً خبط عشواء. أما امارات النفطـ فهي مزدهرة جداً، ومع ذلك، فهي تخاف خوفاً يروّعها، من الحرية.
إذاً، لا ديموقراطية بلا حرية.
هل امتناع الديموقراطية واستحالتها، في لبنان والعالم العربي، بسبب بنيوي ام بعمليات قهر ديكتاتوري، عسكري، وسياسات غرب شرس ينادي بالحرية ويقمعنا، يبشر بالديموقراطية، ونجده ناصحاً دؤوباً لقوى الاستبداد العسكري والنفطي؟ باختصار: لن تعطى الحرية والديموقراطية من الغرب، ولن تسمح القوى الانيقة والمتخلفة معاً، ان تفسح لشعبها قبضة ضئيلة من الحرية.
لذا لا تحلموا بالديموقراطية ـ الحريات كذلك. “هذا حصرم رأيته في حلب”!
كنا في الزمن العثماني الأسود، كيانات تابعة وملحقة. لا صوت لها ولا قوام. كنا أتباع سلطنة متمادية في تاريخها وعقمها. بعد 400 سنة من التوسع. تخلخلت بنية السلطنة. صارت هدفاً لغرب ينقض عليها في الحرب الكونية، ويمزقها ويقتسم ممتلكاتها، ويقيدها بأسواقه وأدوات انتاجه. صرنا مجرد مستهلكين وتابعين. لم يكن قبل ذلك في “محميات” الإمبراطورية العثمانية، أي وجود لدولة. الخلافة الإسلامية خدرت العرب. كان الدين أفيوناً سائداً، والفقر هو عقوبة إلهية، وليس نتاج نهب واستفحال ثروات. السلطان هو الله على الأرض. السلطة مؤلفة من سلطان وجيش ورجال دين. خمسة قرون و”الدولة” العثمانية ليست سوى سلطة واقتصاداً قوامه جمع الضرائب. كانت السلطة العثمانية شبه أزلية. الغرب أنقذنا منها، ثم وضع يده علينا، وبددَنا. صرنا كيانات، لم يكن لها وجود من قبل.
في ظل هذا التغير العالمي، ولدت كيانات على مقاس رغبات الاستعمار الانتدابي، تم تمزيق شعوب وبلاد. وادعى “مفكرو” الغرب، ان المجتمع العربي غير مؤات لبناء وهيكلة دولة، على الطراز الغربي، مقبوض عليها، بقوة الأمر العسكري والاقتصادي. ورثت الكيانات العربية التي انتشرت من المحيط الى الخليج، ضرورة الطاعة لصاحب الامرة. أي، الغرب الذي منعنا من الحرية، وألزمنا بالقبول بالتسلط.
هذا من جهة الغرب، في مرحلة ما بعد الاستعباد العثماني. أما من جهة القوى العربية الفتية، أي النخب الفكرية والسياسية الراغبة بالتحديث والحرية والديموقراطية، فقد أُبعِدت عن السلطة كلياً. وترك المجتمع يلوك ماضيه ويحلم بديموقراطية وعدالة وحرية. فرنسا، قطعت ظهر الكيان، بالثنائية الطائفية- ودمرت سوريا بهدف تقسيمها الى أربع دويلات، طائفية.
الغرب، عدواً كان، وعدواً ما زال. تقدم الغرب يقتضي إبقاء العرب وافريقيا، مجرد سوق يطيع الطبيعة الرأسمالية لليبرالية.
لا مصالحة بين الطائفية والدولة. لا إمكانية لنجاح ديموقراطية في ظل انقسام اجتماعي، قبلي، عصبوي، مذهبي الخ.. لذا غابت فكرة بناء الدولة على قواعد اجتماعية سليمة، وحلت محلها كيانات تحمل بذرة عنفها في تركيبتها. وما نشهده اليوم، في “الدول” العربية المأزومة، ليس نتاج تراكم سياسات إفقار واستقلال وإهمال، بل، ان ازماتها، هي نتاج تفسخ نسيجها الاجتماعي. لبنان، نموذج الانقسامات غير الاقتصادية. حروبه مذهبية مدعومة من خارج قريب، ومن غرب أكثر قرباً. خضعت الكيانات العربية الممنوحة من الغرب، الى قمع سياسي غربي، بعدما ضعفت الامرة الداخلية.
عندما رحلت تركيا مهزومة، دعا ويلسون الى قيام نظام عالمي جديد، على رأسه مؤسسة دولية تكون لها سلطات لحل المشاكل الدولية، وتأمين حرية التجارة، إضافة الى بنك دولي (يتحكم) يمكنه السيطرة على ما يدخل ويخرج من أموال، (وهنا الأهم) والسعي الى ديموقراطيات وتقرير مصير وفرضها دوليا، ومنع الحرب على الأراضي الأوروبية، أي، كان مسموحاً السيطرة ومسموح ايضاً أن تنتقل الحروب من أوروبا الى غيرها من الدول ـ المستعمرات، وهذا ما حصل. سلام أوروبي داخلي، وفوضى وحروب في المستعمرات، وتلك التي “تحررت”، وتم تقييدها بالديون والعنف والاجتياحات المالية، بحثاً عن الثروة.
تغيَر فقط، شكل الاحتلال الغربي للكيانات العربية. الهدف، ان تصبح المنطقة العربية، ومنها لبنان بالطبع، تابعاً لا وريثاً للاستعمار بعدما يرحل. وعليه، للسلطات الكيانية أن تهتم بتأمين الاسواق للاستهلاك، وليس من حقها ان تؤسس صناعات. ومهمتها الاستراتيجية، فتح المدارس للتعليم، ليكونوا جنوداً في معركة الاستحواذ على الاسواق.
لم تنجح القوى الجديدة، بنت الثورات الفكرية والماركسية والقومية في أوروبا، في ان تكون البديل. السبب فيها، وليس بخصومها. أحزاب ذلك الزمن، طمحت كثيراً، وهزمت كثيراً. أكبر هزائمها كانت من نتاج سياساتها.
نعم لبنان بفائض من الحريات. التوازنات الطائفية، تمنع قيام فروقات كبيرة، بين قوى الامر الواقع، المذهبي والعائلي والمالي. نشأ لبنان، ليكون محطة يلتقي فيها الغرب الاستعماري، والشرق المتداعي، فاز العرب. والشرق، دخل في حروب فاشلة، وفي قمع لا شفاء منه حتى اللحظة.
أكبر خطر على هذه المجموعات الكيانية، من المحيط الى الخليج، هو الحرية. الحرية ممنوعة. هي الخطر الابدي. “إسرائيل” آخر همهم. هي الشقيق الحامي والمحمي. هي النموذج الديموقراطي، وسط أنظمة متخلفة، لا قيمة فيها للإنسان. الشعوب سلعة تداول. مأمورة لا آمرة. وحده لبنان، لديه من الحريات الفالتة، ما يجعل الحياة السياسية، كراً وفراً بين الطوائف.
باختصار شديد: لا دولة في لبنان، ولا في أي كيان عربي. الدولة الحديثة، ذات بنية تشاركية بالرأي والمصالح والسياسات والمشاريع. سياسات الصمت العربية، نجحت في تطويع المجتمع ثم الغائه. لبنان، مجتمعه مفتت، وعليه، يستحيل إقامة دولة – الدولة مستحيلة. الديموقراطية مستحيلة. المحاسبة ممنوعة – العمى ضروري. الطرش فضيلة، والفوضى موسم دائم.
وعليه، في خاتمة سريعة: لا قيمة للإنسان في هذا المدى العربي المحكوم، إما بجزمات العسكر، وأما بهذه الجزمات والثروات الفائضة، وإما بدعم غربي يضمن استمرار الظلم، وتلميع سلطاته.
الغرب خائن لمبادئه عندنا. العرب خيانة مستدامة لأنفسهم.
لا مأسسة لدولة. لا قدرة على نتاج نظام يضمن الحريات ولا يسمح لهذه “الدول” بأن تصبح دولاً حقيقية.
لقد فشلنا في مأسسة دولة. فشلنا في صياغة ديموقراطية. فشلنا في صيانة حريات. فشلنا في أنسنة شعوبنا. اننا نستحق هذه العقوبات كلها.
والآتي أعظم.