طلال سلمان

لا أريد رجلا يحبني..

“منذ تعارفنا وأنت تقول إنني حتما وقريبا جدا سوف أقابل من يحبني. يومذاك سوف أجد نفسي على مفترق طرق كلها تؤدي إلى السعادة. سوف اختار طريقا منها أمشي فيه، الأشجار بخضرتها اللامعة على جانبيه والطيور على أغصانها تشدو مرحبة ومهنئة، رصيفاه على الجانبين تزينهما أحواض زهور، كل زهرة بلون مختلف. الرصيف باقة يهديها حبيب إلى حبيبة أطلت من شباك غرفة نومها وسعادتها غامرة وقلبها عامر. نسمة الصباح الناعمة تنفذ تحت قميصي فتدغدغ الجلد ويهتزلها البدن. أسمع لحنا محببا فأتخيل الحبيب على خط النهاية يعزف على آلته الوترية لحننا، لحن حبنا. هناك ينتظرني ومئات الصغار وقد ارتدوا الثياب التقليدية المزركشة بأحلى الرسوم ينتظرون معه تباشير الموكب. السعادة كلها في انتظاري. تذكر ولا شك تفاصيل ما بقى من هذه الحكاية. وصلت أتقافز كعصفور يحلم بيد تفرغت لاحتوائه. تذكر أنني وجدت في انتظاري فتى أحلامي وبطل قصتي يلوح ويهتف. امتلأت بالفخر والرضا حتى أن سمعته يعلن اكتمال سعادته بحصوله هذا الصباح على جائزة تفوق لا يحصل عليها إلا المجتهدون المتفرغون للدرس أو الفائزون في المسابقات الرياضية. أطرقت الرأس، والقلب أيضا. أعتب عليك أنك لم تعدني لهذه النهاية. تركتني اندفع على طريق لم تكن في انتظاري عند نهايته السعادة التي وعدت بها.

سبقتني إلى خط النهاية جائزة. ليتني ما أحببت.


أعلنوا في النادي عن رحلة بحرية تجوب أهم موانئ البحر الأبيض المتوسط. استشرت الأهل فرحب كبير العائلة مبديا رغبته في تمويل جانب من تكاليفها تقديرا لنتائج امتحاناتي للماجستير. استشرتك فكنت كعادتك مشجعا، وعند اقتراب موعد السفر كنت الناصح بأولوية ما أزور وأفعل في المواني التي يزمعون التوقف فيها. كنت أيضا أول من تمنى أن اختلط بالركاب وأتعرف على من هم في مثل عمري او أكبر قليلا. قلت، وكنت خير قائل، ليس كل الرجال متحرشين، عامليهم بالحسنى حتى يثبت العكس. وعندما يثبت هذا العكس أنت حرة لتتخذي الإجراء المناسب. تبدأ حكايتي عند المضيفة الأرضية المكلفة بإنهاء إجراءات بطاقة السفر وشحن الحقائب. هناك وقف شاب في منتصف العمر وقد انهى اجراءات سفره ولم يتوجه مثل ركاب آخرين ناحية أكشاك الشرطة والمغادرة. بأدب مستساغ عرفني بنفسه، هو مرشد الرحلة. شرح لي وظائفه وأظن أنه نفس الشرح الذي يتعين عليه تقديمه لكافة أعضاء المجموعة. أعترف بأنني ارتحت إليه منذ اللحظة الأولى. ارتحت أكثر عندما تطوع أكثر من مرة بأن يحمل بعض مقتنياتي. بعد يوم أو يومين صار الناطق بإسمي في مطاعم برشلونة وفي أسواقها. كان كريما معنا جميعا في شرح تاريخ أشهر كنيسة، أو في الحقيقة أم الكنائس الأوروبية، كنيسة لا فاميليا ساجرادا، ولكنه كان معي أكثر كرما. ففي أكثر من مرة خصني بمعلومات أوفر من تلك التي طرحها أمام عامة الأعضاء. وفي كل المرات كان حريصا على أن أجلس بجانبه. وفي جنوة مثلا دعاني للذهاب معه في رحلة حرة بريفييرا الزهور ومنتجع سان ريمو حيث يوجد كازينو ينافس كازينو مونت كارلو الشهير في الريفييرا الفرنسية. قضيت ليلة من ليالي العمر. لم اعترف إلا بعد أن همس في أذني أثناء الرقص معلنا بكل الدفئ المهذب والممكن أنه يقضي معي وقتا ممتعا لم يقض مثله في أي رحلة أو مناسبة سابقة. لن أنسى الدقائق التي قضيناها معا ومع فنجاني الاسبريسو نشاهد انبلاج الفجر في كافيتيريا على طريق العودة إلى السفينة المقرر لها أن تبحر مع شروق الشمس. كانت ككل الدقائق الصامتة أعلى صوتا من صخب الزبائن الآخرين وأغلبهم من سائقي النقل الثقيل من شتى الجنسيات.

استمر حظي مواتيا في استانبول. إذ قضيت معه خارج المجموعة أمسية أخرى في مطعم يطل على البوسفور. كان سعيدا أو هكذا بدا لي. أو قل هكذا فضحته يده التي تسللت لتمسك بيدي الممدودة بالصدفة ناحيته. برر احتضان اليد لليد بأنه حدث تعبيرا عن إعجاب شديد بأداء المغنية التركية والفرقة الموسيقية المصاحبة لها. لا أبالغ إن قلت لك أنني رأيت سحابة خجل أو اعتذار تكسو وجهه وهو يقدم هذا التبرير الساذج وغير المطلوب ليد احتضنت يدا أخرى.

عدنا إلى القاهرة وفي مطارها اختلفت مراسم وداعنا، هو وأنا، عن غيرنا. الآخرون تبادلوا معه أرقام الهواتف الشخصية ووعود بلقاءات قريبة، أما أنا فربتة على يدي. مشيت نحو باب المطار أجر حقيبتي. هناك عند الباب وقفت السيدة نازلي، رفيقتنا في الرحلة، تنتظر سيارتها. اقتربت مني تعرض توصيلي وعلى الفور قبلت العرض شاكرة. ركبنا السيارة. لم أنطق بحرف ولم تنطق حتى اقتربنا من حيث أنوى النزول من السيارة. التفتت ناحيتي وقالت بعد اعتذار مناسب إنها ربما أخطأت لأنها لم تنبهني منذ بداية الرحلة الى أن الشاب الوسيم المهذب مرشد الفريق تزوج قبل أسابيع قليلة من سيدة أحبته وأحبها حبا جما. أظن أنني عززت ما قالت وأنه كان بالفعل نعم المرشد والرفيق. نزلت من السيارة مطرقة الرأس والقلب مرة أخرى. سبقتني إليه سيدة وتبادلا حبا جما. ليتني ما أحببت.


حكايات حبي كثيرة وأنت تعرف بعضها. لم أقصر في تنفيذ ارشاداتك ونصائحك. العيب على كل حال ليس فيها. أنا فاشلة في الحب. القدر يعاكسني. تارة أصل قبل الوقت المناسب وتارة بعده. مرة أقع على الشخص غير المناسب ومرات أحب رجالا لم يحبوا أحدا أو شيئا قدر حبهم لذواتهم. تعبت يا صديقي. يكفيني عذاب ما بعد الفشل. انتهى الأمر، لا أريد بعد اليوم رجلا يحبني، أريد رجلا يتبناني”.

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

Exit mobile version