طلال سلمان

لا أحد منّا خارج الحصار وكلنا محكومون بكسره لكي نتنفس

كلمة طلال سلمان في افتتاح مهرجان “حاصر حصارك” في المدينة الرياضية في 2002/4/14 دعما للانتفاصة.

لا نلتقي بالمصادفة، في هذا اليوم تحديدا، وفي هذا المكان تحديدا… بل لقد جئنا من لبنان كله لنتلاقى مع فلسطين على تخوم الجريمة الإسرائيلية الكاملة والممتدة من أقصى الوطن العربي الى أقصاه، وإن كان عنوانها دائما فلسطين.

فهذه المدينة الرياضية الجميلة كانت أول هدف للاجتياح الإسرائيلي للبنان في صيف العام 1982، وكان قائده آنذاك السفاح أمس واليوم وغدا أرييل شارون.
وخلفنا مباشرة مسرح المذبحة المنظمة التي خطط لها وأشرف عليها أرييل شارون شخصيا، في مخيمي صبرا وشاتيلا، فأعدم الآلاف، نساء ورجالا

وأطفالا وشيوخا، ذبحا ونسفا، محوّلا هذه البقعة الجميلة الى مقبرة جماعية… وهو، بالضبط، ما يكرره الآن، وبعد عشرين عاما، في جنين ومخيمها الذي سيكون رايتنا ونشيدنا غداً، باعتباره ولادة المقاومين، ولن يكون أبدا مقبرة الأمل بتحرير فلسطين.

ولقد كان الخيار في تحديد هذا المكان لتوكيد وحدة القضية، ووحدة الأمة في مواجهة عدوها الواحد، فالمذبحة في لبنان، عبر اجتياحه، لم تكن أكثر من فصل واحد من فصول هذا الصراع المفتوح والمفروض على الأمة، والذي يقرر عليها واجب الحرص على حياتها ومستقبلها أن تنتصر فيه.

لفلسطين الأيام جميعا، ومن قبل أن يجيء إلينا شاعرنا الكبير محمود درويش، كنا وسنبقى نسعى إليها كل يوم، نحتضن جراحها بشغاف القلوب، ونمد إليها يدنا بقدر ما نستطيع لنقول اننا محاصرون معها وفيها ومثلها ما استمرت رهينة الاحتلال الإسرائيلي وحصاره المفتوح عليها كما على الإرادة العربية.

إننا جميعا، الحاضرون هنا والغائبون، نسكن فلسطين القضية… ولأن محمود درويش معنا اليوم، بشميم فلسطين وصوتها وإرادة المقاومة حتى النصر فيها، فقد تكوكبنا من حوله لكي نؤكد ان فلسطين أوسع من أرضها وأن الفلسطينيين أعظم عددا بما لا يقاس من الذين ولدوا وعاشوا أو استشهدوا فيها أو أنهم ينتظرون.

ليست فلسطين مهد الحلم، ان حريتها شرط لمستقبلنا. والأمل يتقدم نعش الشهيد. إن فلسطين هي إرادة النصر.

ليست فلسطين هي المستحيل.

نعرف، بشهادة المدن التي تجتاحها الدبابات ولا تركع، والمخيمات التي صمدت حتى آخر خيط شمس، ثم استبيحت فأحرقت، بغير أن ترفع الأعلام البيضاء، والرجال الذين قاتلوا حتى النفس الأخير، والصبايا اللواتي وهبن شبابهن وأحلامهن في غد أفضل للأرض التي تنبت ورد الحرية، نعرف ان إسرائيل العنصرية والقتل المفتوح والاحتلال الاستعماري هي المستحيل،

ولقد زادنا محمود درويش، قيثارة المقاومة وأهزوجة النصر يقينا، خصوصا أنه يتوجه الى عقولنا قبل عواطفنا، ويضيء لنا نور الغد، وسط ظلمة الحصار والاجتياح واليأس من أنظمتنا ومن أوضاعنا البائسة، سياسيا واقتصاديا.

لقد عدنا الى فلسطين وعادت إلينا.

بغير فلسطين تتقطع أوصال هذه الدنيا العربية وتلتهمنا الكيانيات والعنصريات والعصبيات الطائفية والمذهبية والجهوية فنصبح فرقا فاقدة الوزن والقيمة ووجهة السير.

إن فلسطين هي الرباط المقدس: عدوها عدونا جميعا، يستوي في ذلك الاحتلال الإسرائيلي أو الهيمنة الأميركية التي تبرر ذلك الاحتلال وتغطيه، باحتقار شديد للعرب، أمة ودولا، أنظمة عاجزة وشعوبا مقهورة، تدور في الشوارع تبحث عمن يقودها ويهديها ليأخذها الى المواجهة فلا تجد، فتعرف أن عليها ان تقاتل الموانع والحواجز التي تسد طريقها الى فلسطين، الى الحرية، الى المستقبل.

نتلاقى اليوم هنا في أفياء هذا اليوم التضامني العظيم الذي ينتظم فيه لبنان جميعا، بشماله وبقاعه، بجبله وجنوبه المحرر، بعاصمته الأميرة بيروت، هذه التي كانت وما تزال وستبقى، نوّارة العرب، منتداهم الثقافي وشارعهم الوطني ومطبعتهم والكتاب وصحيفة الصباح، والتي تستعيد عافيتها وقد مسحت آثار شارون الهمجية، مبشّرة بأن المقاومة تنمو بالديموقراطية، وأن الشعب هو البداية والنهاية، وأن الأنظمة القابلة للحياة هي التي تستعد لمواجهة الاحتلال والهيمنة وليست تلك التي تسعى الى اتفاقات الإذعان بالصلح المنفرد وتحتمي بها من غضب شعوبها.

نلتقي لنؤكد التزامنا بفلسطين، قضية تحرر وتحرير للأمة، وبدعم شعبها وقيادتها التي تعززت شرعيتها بصمودها، فاستعاد ياسر عرفات صورة المقاتل والرمز الوطني الجامع لشعبه بمختلف تلاوينه السياسية، واكتسبت »رئاسته« وهجاً نضالياً تفتقده مؤسسات الحكم، عادة، ولا تناله إلا عبر التحرير أو الاستشهاد.

نلتقي لنؤكد ان جنين ونابلس وطولكرم وقلقيلية ورام الله، وبيرزيت وبيت لحم، بالصامدين في حمى السيد المسيح في كنيسة المهد فيها، هي مدننا وبيوتنا، أهلها أهلنا، قضيتهم قضيتنا، شهيدهم شهيدنا، وواجبنا في غدنا أن نحمي حق الحياة لهم ولنا، وهو واحد، وعدوه واحد.

نلتقي لنؤكد ان لبنان الذي قاوم الاحتلال فانتصر وأجلاه بغير قيد أو شرط، بفضل التفاف شعبه ودولته حول مجاهدي المقاومة البواسل، وبفضل دعم سوريا الذي لو تيسر مثله لفلسطين الآن لزادت قدرتها على الصمود وعلى المقاومة ولانفتحت أمامها أبواب النصر.. لبنان الشهداء من مناضليه الوطنيين ومجاهديه المؤمنين الذين قدموا حياتهم رخيصة، وهم الآن على سلاحهم لصد أي عدوان، قد تصالح مع ذاته وتصالح مع فلسطين القضية، ومع شعبها الذي يسقي أرضه بدمه ولا يغادرها مهما اشتدت عليه ضغوط العدو وتخلي الأنظمة التي تخضع أخوته لإرادة الاحتلال والهيمنة أو تفرض عليهم الثورة… وبشائرها نجمة صبح تلتمع لتعلن نهاية ليل الخضوع والخنوع والارتهان.

كلنا محاصرون مع شعب فلسطين وقائده الأسير.

ولكنا سنقاوم الحصار الذي يطوقنا من أقصى المغرب الى أقصى الأرض العربية جنوبا، في يمن الجزيرة وخليجها وأرض الحرمين الشريفين.

لا أحد منا خارج الحصار، وكلنا محكومون بكسره لكي نتنفس، لكي نحلم، لكي نبني حياتنا فوق أرضنا، لكي يكون لنا غد.

أهلا بمحمود درويش في لبنان.

ولسوف يأخذنا شعره الرسالة الى فلسطين القضية، هذا الشعر الذي سيتحول مع فنانتنا ماجدة الرومي الى ترنيمة صلاة، بقدر ما سيكون الفنان أحمد قعبور حادي المقاومة ومنادينا إليها.

أهلا بكم في يومكم للتضامن مع فلسطين.

ولنرحب الآن بفلسطين التي تكسر الحصار وتجيئنا مع محمود درويش، الذي أخرجته المصادفة من الأسر المؤقت، جنبا إلى جنب مع القائد الصامد ياسر عرفات، الذي نعرف انه يتابعنا، وأن عزيمته ستغدو أعظم صلابة وهو يسمعنا، فيستقوي على الضغط لابتزازه أميركياً لحساب إسرائيل باستغلال حملة التدمير المنهجي والقتل الجماعي لفرض شروط سياسية لا يمكن ان يقبلها قائد مسؤول في شعب مقاوم، فضلاً عما يصله من أصداء التأييد والدعم والاحتضان في أربع رياح الأرض العربية كما على اتساع الكون بشرقه وغربه وشماله والجنوب.

Exit mobile version