في الشهور الأربعة الأخيرة من 2016، كنا على موعد أسبوعي مع رئيس تحرير جريدة “السفير” طلال سلمان في إطار التحضير لفيلم وثائقي. ينسحب من مكتبه في الطابق السادس ويوافينا إلى “غرفة الاعترافات” كما أسماها، ليحكي قصة شاب لبناني فقير استطاع تأسيس واحدة من أهم الصحف في الوطن العربي… وقرّر أن يقفلها بعد 43 عاماً. ندر أن تمر جلسة من جلسات “إعترافات” طلال سلمان، إلا وكان يأتي فيها على ذكر سوريا ورئيسها الراحل حافظ الأسد، الذي التقاه سلمان على مدى سنوات حكمه التي قاربت الثلاثين نحو 10 مرات، وكانت لقاءات تمتد لساعات طويلة أتاحت له الاطلاع عن قرب على شخصية هذا الرجل “الاستثنائية” كما يصفها.
نقّار الخشب
التعلّم الدائم ميزة لمسها طلال سلمان بنفسه منذ اللقاء الأول الذي خرج منه موافقاً على الوصف الذي كان كثيرون قد أطلقوه على الأسد بأنه “نقّار خشب”. يصفه سلمان بأنه “رجل بسيط في ثيابه وسلوكه، بعيد عن مظاهر الثراء، يهتم كثيراً بمعرفة الشخص الذي يجلس قبالته خصوصاً في المرة الأولى، وكان محدّثاً لبقاً جداً، ولديه عادة مميزة هي أن يعطي ضيفه نحو ربع ساعة أو نصف ساعة ليقول ما عنده في بداية اللقاء، ثم يبدأ هو في الكلام عن الشؤون العامة. قد تعتقد أنه نسي ما قلته له في بداية الحديث، لكنه يعود ليردّ على كل الكلام نقطة نقطة. لذا كنت أقول إن الذاكرة عنده مؤلفة من طابقين، ذاكرة تخزّن وذاكرة يستعين بها حين يحكي”.
في اللقاء الأول الذي قاربت مدته الساعتين، كان سلمان متهيّباً، خصوصاً أنه أشار أمام الأسد إلى ممارسات الوحدات الخاصة، او الجيش الأحمر بحسب التسمية اللبنانية، التي كان شقيقه رفعت الأسد قد أطلقها في بيروت. لم يمرّ الرئيس على هذه الإشارة مرور الكرام، بل أصرّ على الاستفسار عن الموضوع ممطراً سلمان بالأسئلة. “لقد غضب الله عليّ وجعلني أشير إلى الجيش الأحمر. لم يعد التراجع ممكناً لأنه توقف عند هذه المعلومة وصار مهتماً بمعرفة كل تفاصيلها”. صار الأسد يسأل وسلمان يدور حول الإجابة، من دون أن يستطيع الهروب منها. “من يكونون؟، “لا أعرف”، “هل هم جيش؟”، “يعني هم ليسوا جيشاً، ولكن يقولون عنهم الجيش الأحمر”. “لماذا؟”، “نراهم في شارع الحمرا”، “كيف تعرف أنهم هم؟”، “هم يعرّفون عن أنفسهم من خلال تصرفاتهم”. “لمن يتبعون؟” هنا تردّد سلمان قليلاً قبل أن يجيب “تابعون لرفعت الأسد”. “أنت متأكد؟”، “هذا ما يتردّد”. “هل يسيئون التصرّف؟”، “نعم”.
الأسد يحاول التخلص من كيسنجر
من خلال هذه المقابلة التفت سلمان إلى أنه كان أمام “شخص مختلف عن الصورة التي كنا قد كوناها عنه في بيروت نتيجة دخول الجيش السوري عام 1976″، وهو انطباع سيتعزّز مع مرور السنوات وتعدّد اللقاءات التي تجاوزت العشرة، والتي سمع سلمان خلالها من الأسد أشياء مهمة جداً لم يكن قادراً على نشرها كلّها أبرزها ما أخبره إياه عن زيارة الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون إلى دمشق في العام 1974.
كانت المفاوضات تجري على قدم وساق في المنطقة بعد حرب تشرين التي شاركت فيها سوريا مع مصر. وقد استطاع الأسد إجبار نيكسون على زيارة دمشق، برفقة وزير خارجيته طبعاً هنري كيسنجر. خلال هذه الزيارة لم تتح للأسد فرصة الانفراد بنيكسون في اليوم الأول، لأن كيسنجر كان حريصاً على أن لا يتركهما لحظة. في صباح اليوم التالي، خلال عقد الجلسة الختامية لإقرار البيان الرسمي عن الزيارة، كان كيسنجر يستعجل الانتهاء، مرة بداعي أن الصحافيين ينتظرون اللقاء معهم، ومرة ثانية بداعي أن الطائرة جاهزة. هذا التجاوز من قبل كيسنجر استفزّ الأسد فقال له “الصحافيون ينتظروننا حتى ننهي جلستنا فلا تقلق، موجبات مهنتهم تقتضي منهم ذلك”. وفي المرة الثانية رفع صوته قائلاً له “إنها طائرة الرئيس وهو من يقرّر موعد قيامها، اهدأ قليلاً حتى ننهي محادثاتنا في جو طبيعي”. تابع الأسد محدّثاً سلمان: “في هذا الوقت كنت أفكر طريقة للتخلص من كيسنجر والانفراد بالرئيس الأميركي ولو لدقائق، إلى أن انتبهت الى أن ثمة باباً جانبياً بعد الباب الرئيسي. دفعت الرئيس نيكسون الى داخل المكتب الخاص، ودخلت خلفه، ثم أغلقت الباب، من الداخل، بالمفتاح، بينما كيسنجر يقرع على الباب من الخارج، ويقول: افتحوا لي”.
المفاجأة كانت ردّة فعل نيكسون، إذ اقترب من الأسد وقال له هامساً وهو يتلفت حوله: “انتبه، إنه يهودي”. بدا الاستغراب واضحاً على ملامح وجه سلمان، فعلّق الأسد: “حتى الرؤساء في أميركا يخافون من اليهود. وعلينا ألا ننسى أبداً مدى التغلغل الصهيوني في الإدارة الأميركية وتأثيره على قرارها”.
السادات يقضي على الإنتصارات
في هذه المرحلة أيضاً، كانت لقاءات كثيرة تجمع الأسد بالرئيس المصري أنور السادات. مرارة كبيرة سببها الأخير للأسد منذ قراره المنفرد في العام 1973 بوقف الحرب من جانبه مع اسرائيل ما كشف الجيش السوري أمام العدو الاسرائيلي، “قال لي الأسد إنهم خسروا حوالي 3000 دبابة بعدما انفرد بهم الاسرائيلي فكانت نكسة كبيرة للجيش السوري بعدما كان قد وصل إلى طبريا، ونجح في عملية الإنزال على قمة الجولان وأخذ المرصد الاسرائيلي فيها، أي أن السوريين حققوا انتصارات باهرة عسكرياً قضى عليها قرار السادات المنفرد”.
ولم تنته معاناته مع السادات هنا، بل تعدّتها إلى اتخاذه قرار توقيع معاهدة الصلح مع اسرائيل. يذكر سلمان أنه في كل لقاءاته مع الرئيس الأسد كان الهدوء سمته “إلا مرة واحدة عندما تحدّث عن تجربته مع السادات، انفعل ووصفه بالخائن وألحقها بشتيمة، ثم اعتذر عن الشتيمة لكن الأسد اعترف لي أنه فكر مرة باعتقال السادات خلال واحدة من زياراته إلى سوريا. قال لي: “فعلاً، وأنا أرافقه إلى المطار صرت أفكر بيني وبين نفسي ماذا سيحصل إذا اعتقلته؟ هو خائن للأمة وخائن للقضية، لكني سألت نفسي أيضاً كيف سيتلقاها المصريون؟ وكيف سيتلقاها العالم، أن أعتقل رئيس دولة كان يزورني؟ هي أفكار دارت في راسي بينما كنت أودّعه”.
المدمرة الخارقة
ومن القصص التي تكشف صبر الأسد، الموقف الذي حصل بينه وبين جنرال أميركي متقاعد كان يتردّد عليه دائماً، وكان الأسد يستقبله رغم أنه كان يعرف أنه لا يزال يعمل مع المخابرات الاميركية. سأله الأسد مرة عن المدمرة “نيوجرسي” التي وصلت إلى سواحل بيروت، فأخبره الجنرال أنها الأولى من نوعها في العالم، هزّ الأسد رأسه وقال “مضبوط”. صار الجنرال يستطرد في سرد مواصفاتها، كأن يقول للأسد إنه إذا كان طول المدمرة العادية 50 متراً فهذه المدمرة طولها 80، وإذا كان عرضها 25 مترا، فهذه 50 متراً، وعند كل معلومة كان الأسد يهزّ رأسه إعجاباً. مرة لدى الحديث عن التصفيح، ومرة عن طول المدفع، ثم عن حجم فوهته، وعن حجم القذيفة ووزنها. وبينما كان الجنرال يجلس في المقعد الوثير مسترخياً، وصل الحديث إلى المدى الذي تبلغه القذيفة قبل أن تصيب هدفها وحجم الحفرة التي قد تسببها، عُمقاً وعرضاً، هنا سأل الأسد ضيفه بهدوء شديد: “لكنك تعرف جنرال أن الأرض تبقى في مكانها في حين أن المدمرة لا يمكن أن تبقى في بحر ليس بحرها”… هنا، انتفض الجنرال الأميركي، وشعر كأنه وقع في فخ، وأعاد ترتيب طريقة جلوسه في المكتب الرئاسي السوري.
بين عبد الناصر والأسد
هل يمكن القول بعدما اكتملت تجربة الرئيس حافظ الأسد، ومن خلال المواقف التي يذكرها سلمان عنه، إنه معجب به؟
يجيب طلال سلمان من دون تردّد: “بحدود معينة.. نعم”. يذكر أن رئيس الوزراء السابق الراحل صائب سلام قال له مرة عبارة بقي يفكر بها. “قال لي صائب سلام: ربما تكون أنت معجباً بجمال عبد الناصر أما أنا فمعجب أكثر بحافظ الأسد، وأعتبره أذكى من عبد الناصر”. بالنسبة إلى سلمان، قد يكون هذا الكلام صحيحاً “ما أستطيع قوله إن عبد الناصر كان قائداً تاريخياً، هو رئيس لبى مطلباً جماهيرياً وشعبياً عمّمه على الأمة العربية ككل. أما حافظ الأسد، فقد كان قائداً دؤوباً، صنع من الضعف قوة، حوّل سوريا الفقيرة والمحدودة المساحة إلى دولة كبرى في المنطقة، دولة لها كلمة عليا في الجامعة العربية، في الخليج، في السعودية، يعني كانت المقارنة دايماً بينه وبين رئيس مصر، مصر الدولة التي تعدّ الكبرى والأساسية في القرار العربي صارت سوريا أهم منها بكثير. كما أنه استطاع أن يحكم سوريا ثلاثين عاماً مديراً اللعبة الداخلية بذكاء كبير”.
باني الدولة الحديثة
قبل أن يتسلّم الأسد السلطة “كانت “المانشيت” المألوفة عن سوريا هي “انقلاب عسكري”، فأن يأتي شخص ويجعل من هذه الدولة الفقيرة دولة كبرى يحسب لها حساب في العالم، وأن يبني علاقاته بهدوء وبصبر ويوازن بينها، وأن يحكم لبنان؟ هذا إنجاز كبير. وأعتقد أن وجوده في لبنان كان واحداً من أخطر الإنجازات التي قام بها، لأن لبنان بلد صعب. هو مجموعة دول، تجد فيه أميركا وفرنسا وأوروبا وروسيا وإيران و.. لذلك عندما دخل الأسد إلى لبنان اصطدم به الجميع، وحُورب، وكل قوة في لبنان كانت تقف خلفها دول، وغالباً ما تكون هذه الدول من خصومه، وبالتالي كان لبنان مختبراً مهماً جداً بالنسبة له بمعنى أن لبنان كان دائماً كأنه محمية دولية أو غربية، فتعلّم منه الكثير”.
أما في سوريا، فقد انصبّ جهده على عملية بناء الدولة “حظي التعليم باهتمام كبير، وتابع الاهتمام بالجيش، ومنهما إلى سائر القطاعات، فصار المواطن السوري يشتري الدواء صناعة سورية، ويستشير الطبيب السوري، أسّس لنهضة زراعية فزرع ملايين أشجار الزيتون في أراض بور، أعاد خلق سوريا جديدة مستفيداً من كامل إمكاناتها وأقفل الأبواب في وجه الاستيراد والتصدير إلا بحدود ضيقة جداً، طبعاً ساعده الروس والصينيون، صار لديه اكتفاء ذاتي بالأسلحة العادية ما عدا الطيران والدبابات. يعني على امتداد 30 سنة نجح في تغيير سوريا التي ازدهرت واتسعت، صار في حركة وشغل، رب العمل الأكبر هو الدولة. حافظ الاسد اذا أردنا الاختصار: نقول هو باني الدولة السورية الحديثة”.
تنشر بالتزامن مع موقع 180