طلال سلمان

كيانية لبنانية ربيع عربي اسئلة ما بعد اسقاط طغيان

بينما تستعيد الشعوب العربية وعيها وتعود إلى العصر عبر انتفاضات شعبية متلاحقة في المغرب والمشرق، يزداد لبنان السياسي غربة عن واقعه وتغرقه الطبقة السياسية في تناقض لا ينتهي بين ادعائها أنها رائدة حركة التغيير ومفجرة «الربيع العربي»، وبين تعظيم الخوف على كيانه و«عائلاته الروحية» من الثورة، بوصفه ملاذ الأقليات وملجأها الآمن في البلاد المهددة الآن بأن يجتاحها التعصب الديني مهجِّر المختلفين في وسائط الإيمان.
وبينما يحتدم النقاش الفكري والصراع بين القوى الجديدة و«النظام القديم» الذي بات واضحاً أنه يفقد أكثر فأكثر حصانته وتتبدى حقيقته المعادية لطموحات الشعوب وحقها في أن تكون صاحبة القرار في شؤون أوطانها، تتراوح ادعاءات «النخب» التي ضربها الطاعون الطائفي في لبنان بين المباهاة بكونها طليعة التقدم إلى العصر وبين التخوّف من رياح التغيير التي قد تعبث بالستاتيكو الذي تحكم برسم خرائط «الدول» في هذه المنطقة، قبل قرن إلا قليلاً..
أحياناً تكاد العزة بالإثم تأخذ هذه الطبقة السياسية إلى التباهي بأن هذا «الكيان» بنظامه الفريد قد استعصى دائماً على التغيير بالثورة، واستطاع تطويع الانتفاضات عبر إغراقها في المستنقع الطائفي.. بل إن هذا النظام الذي ابتدع خصيصاً للوطن الصغير قد صدَّر إلى بعض الأقطار العربية شيئاً من خصائصه: فالدين قبل الوطن، والطائفة فوق الدولة، مما ينفي وجود «الشعب» الواحد الموحّد، ويمكِّن لنظرية «لبنان أولاً» أن تسود وأن ترتفع راياتها في دول عديدة صارت كل منها «أولاً» وليس ثمة من ينافس!
اليوم، والانتفاضات تعيد إلى الحياة «دولاً» غيّبها حكّامها فاختصروها في أشخاصهم، أو في عائلاتهم المقدسة، تأخذ الدهشة الكيانيين في لبنان وهم يرون «العالم»، و«الغرب» تحديداً، لا يهتم لأمرهم ولا «يتفهّم» هواجسهم وقلقهم على المصير «كأقليات»، بل يطالبهم بأن ينخرطوا ـ كمواطنين لا كرعايا ـ في أوطانهم التي كانت أوطانهم على مرّ الأزمان.
وبغض النظر عن الزجليات التي يطلقها، الآن، أولئك الذين طالما استعلوا على «العرب» في المشرق والمغرب معاً، فمن المؤكد أن «الربيع العربي» لمّا يصل لبنان. هذا لا يلغي حقيقة أن اللبنانيين سيتحمّلون بعض أعباء «الثورة المضادة» عليه، إلا حيث يسقط ذلك الربيع في هوة الكيانية أو العرقية أو الجهوية أو القبلية وكلها أفخاخ على الطريق تأخذ إلى التبعية للأجنبي.
أو ليس الحلف الأطلسي قوة دعم للتحرّر من الطغاة؟ «ألم يسخّره الله لكي ينصرنا، جنباً إلى جنب مع الاتحاد الأوروبي ومجلس التعاون الخليجي، فأشرف على التحرير، ونفذه بكفاءة ومهنية عالية» على ما قال أبرز قادة التغيير في ليبيا في خطابه الاحتفالي، أمس، بولادة ليبيا الجديدة.
وهذا كشف لسر خطير مفاده أن لله، جلّ جلاله، حق الإمرة على الحلف الأطلسي!
[ [ [
لنعد إلى ما هو جدي.
إن العرب يتعرّفون، الآن، إلى العصر ويدخلون فيه.
إنهم يخرجون من كهوف الدكتاتورية وحكم الأسر المالكة الثروة والسلطة والسلاح، وهي أركان الطغيان، على ما كان يقول معمر القذافي في كتابه الأخضر.
كانت المشاهد التي رآها العرب بقلوبهم في تونس مصدر نشوة: الرجال والنساء، الشيوخ والكهول والفتية ينتظمون بخلافاتهم الفكرية والسياسية في صفوف طويلة أمام صناديق الاقتراع. يكتشفون أن لصوتهم أثراً في القرار حول أحوالهم كما في اختيار حكّامهم. ينتبهون إلى أنهم يستطيعون أن يقولوا «لا» بعد احتراف القول بألسنتهم (أو عبر من ينوب عنهم) نعم، نعم، نعم..
من أسف أن تونس لا تجد بين العرب من تعود إليه لتسترشد بتجربته في الديموقراطية وهي قد تتطلع إلى لبنان ولكن الطائفية فيه تلغي، عبر الطبقة السياسية التي تتوالد من ذاتها، أي معنى للديموقراطية التي تستمر موضوعاً لحلقات الزجل.
أما مصر فما تزال في الشارع، تخوض الصراع الحتمي بين «التقليديين» الذين يخافون من الثورة بوصفها ذروة التطرف، وبين المبشّرين بالغد من أهل الميدان الذين لا تنقصهم المعرفة وإن كانوا ناقصي التجربة وهم يحاولون ـ مجتهدين ـ أن يتعرفوا إلى كيفية تحويل «النظري» إلى «عملي».
يعرفون الكثير عن المؤسسات التي تتشكّل منها الدولة وترتكز إليها. لكنهم لا يعرفون كيف يبنونها، ويخافون من هدم المؤسسات القديمة القائمة والتي تشكّل ضرورة لحياة الناس، من دون أن يتوصلوا ـ وبالسرعة المطلوبة ـ إلى بناء المؤسسات الضرورية لدولة حديثة تكون لشعبها لا في خدمة الحاكم بما يمكِّنه من أن يتحوّل إلى طاغية؟!
المعرفة في الخارج الغربي لا في الداخل العربي.
والنموذج اللبناني يقدّم صورة مشوّهة عن الدولة وعن الديموقراطية ولذا يفضل الابتعاد عنه.
ثم إن هناك معوقات كثيرة أمام بناء الديموقراطية بينها المال السياسي وتسييس الدين، وغربة العرب عن العصر لآماد طويلة بحيث ظلت تجربتهم مع النظام الديموقراطي محدودة جداً ونظرية تعتمد على القراءة و«النقل».
وفي التجارب العربية المعاصرة يتبنى كل نظام دكتاتوري الترويج للديموقراطية في الأقطار الخاضعة لأنظمة مخاصمة.
ومن طرائف العصر أن أبرز الدعاة للديموقراطية في بعض البلاد العربية يعملون في خدمة أنظمة أشد عتواً وأكثر بُعداً عن العصر و«البدع» الديموقراطية كالانتخابات ومبادئ محاسبة السلطة القائمة بالأمر، والأخطر: تبديل الحكّام بعد أجل معلوم، ليأتي غيرهم عبر الاقتراع الشعبي الذي يمنح المواطن ذلك الإحساس المنشي بأنه إنسان له رأيه، وأن رأيه له قدرة التأثير على نظامه برئيسه وحكومته وإدارته ومجلسه النيابي و… القرار الوطني المستقل.
ويمكن لأصحاب السلطة الأبدية في هذه الأقطار، والذين لا يغيّبهم إلا الموت أو مؤامرات القصر أن يدّعوا الآن، وهم قد ادّعوا فعلاً، أن لهم دورهم الفعّال في انتصار حركة الثورة العربية وفي التعجيل في استقدام الربيع العربي… وهم قد يقدمون ليبيا كمثال على شهامتهم ونخوتهم ونجدتهم الأخوية للثوار بالمال والرجال والسلاح، بما فيها الطائرات الحربية التي تناوبت على قصف الجماعات الموالية للقذافي وتدمير أسلحتها جميعاً، بما فيها الدبابات والطائرات الحربية التي دفع ثمنها الشعب الليبي بالذات.
ولا يمكن أن يقبل العقل أن تكون طريق الربيع العربي تمر عبر الحلف الأطلسي أو عبر حكّام النفط، ومن كان في ليبيا هو واحد منهم وإن اختلفت الطبائع والأمزجة… ولعله أحب تقليدهم بأن يحكم مدى الحياة ثم يورث السلطة والثروة والسلاح لبعض أنجاله، وهو قد وزع عليهم ـ بالفعل ـ أسباب الحكم في حياته حتى لا تفرّقهم «مؤامرات القصور» بعد غيابه.. لكن القدر تدخل فأنقذ ليبيا من تمديد ذلك العهد إلى أجل غير معلوم!
وليست خسارة للعرب أن يسقط حكم الطغيان في ليبيا.
لكن الأسئلة المقلقة لا تتعلق فقط بالوريث، بل تتصل قبل ذلك بهذا التداخل غير المفهوم بين مصالح الغرب الأميركي والنظام السلطاني العربي في ادعاء أبوة الربيع العربي، الذي أنشى وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون إلى حد رفع إصبعيها بشارة النصر خلال زيارة الساعتين إلى طرابلس، قبل يوم واحد من قتل القذافي.
فإذا كانت هيلاري كلينتون ومن معها وفي ركابها بدءاً من أهل النفط وصولاً إلى الحلف الأطلسي، هم المنتصرين، فهذه ليست بشارة بالربيع العربي بقدر ما هي إشارة إلى أن العرب ما زالوا بعيدين عن ولوج عصر الثورة التي ستحملهم إلى غدهم الأفضل.
فإسقاط الطغيان إنجاز عظيم.
لكن الثورة تتجاوز ذلك إلى بناء الغد الأفضل للإنسان العربي الذي كثيراً ما توهّم أنه وضع قدمه عند باب الثورة ثم وجد من يقصيه عنه ويعيده إلى واقعه الكريه… في انتظار أن ينجح، مرة أخرى، في صنع ربيعه بقدراته، لا بقرارات المجتمع الدولي التي ينفذها الحلف الأطلسي بتمويل عربي ومعه التحليل المستند إلى الشرع الحنيف.

Exit mobile version