طلال سلمان

كن شاهدا علينا وأحكم بيننا

كنا، زميلي وأنا، نتناقش في أمر يخص العمل. أنت تعرفه فهو من فريق تلقى تدريبا على يديك. لاحظت وقد اقتربنا من نهاية النقاش كما لو أن ملكة التركيز تخلت عنه. فجأة فقدت ردوده ترابطها وراحت عيناه تجول أرجاء الغرفة لتتوقف لثانية أو أقل عند صفحة وجهي.

رأيت في تلك اللحظات أو الثواني نظرات حائرة حيرة الخاطف ومترددة تردد الوجل المذنب. فجأة توقف عن الحديث المتقطع أصلا ليقترح استراحة. أغلق كراسته وسكت عن الكلام. نظراته أوحت لي بأشياء وظنون. نهضت وأخذتني قدماي إلى الشرفة ثم إلى الحمام ومنه عدت إلى حيث كان جالسا في صمت. قطعت صمته وبادرته بسؤال أعقبه نقاش ليس كأي نقاش. إليك يا أستاذنا وصديقنا نص ما دار لتحكم بيننا.

قلت: ماذا بك؟. تبادلنا على امتداد أيام أفكارا وآراء أتصور أنها كانت عالية المستوى كما انتظرت أن تكون. كنت دائما براقا في مداخلاتك وفي أسئلتك، وكنت حاضرا باستمرار ومشاركا لا يكل ومعينا للأفكار لا ينضب. فجأة رأيتك وكأنك قررت أن تغيب بروحك عن النقاش وعني. أردت أن تقول شيئا وترددت في النطق به. أظن أن أسلوبي في التعامل معك خلال الأيام الأخيرة التي قضيناها في هذا التدريب وخلال النقاش الذي أدرناه معا اليوم أقنعك بأنك تستطيع أن تأتمني على سر يقلقك أو تسألني المشورة حول أمر يخصك. أظني في محله؟

قال: بعض ظنك في محله. تعارفنا منذ أيام قليلة وقد استفدت من هذه الدورة في نواحٍ متعددة. لفتت انتباهي السعادة الفائقة التي شعرت بها خلال معظم جلساتها. كانت دورة مختلفة. حضرت دورات كثيرة لم أشعر خلالها بهذا القدر من الامتنان لمن نصحوني بها. وجدت نفسي بعد الأسبوع الأول أتساءل عن سبب هذه السعادة. الدورة في شكلها العام وفي برامجها ونوعية المدربين والمتدربين يميزها عن سابقاتها الكثير. بحثت وترويت ثم عدت فبحثت لأكتشف أن وجودك فيها كان على رأس ما يميزها عن سابقاتها. أراك تتأهبين للرد. أريد فقط أن أذكرك بحقيقة أنت نفسك تحدثت عنها خلال الدورة، وهي الإشادة بواقعيتي في الرأي والتحليل والقرار. أعتقد أنني وقعت في حبك.

قلت: لا بد أنك تعرف أنني أقدرك ولا شك أنك شعرت بارتياحي لوجودك معنا. أعترف لك على الفور أنني تأثرت جدا بما قلته للتو وأنني كأنثى أعتبره ثناء ودافعا للفخر ومكافأة لي على ميزات أنت اكتشفتها ومنحتني بسببها هذا الشرف. أعتز جدا بتصريحك هذا وأتمنى أن تسمح لي بمناقشته. كنت كريما معي خلال جلسات هذه الدورة، وكنت صبورا في التعامل مع آراء الآخرين ومواقفهم من مداخلاتك…

قال: سامحيني على المقاطعة ولكني أحب فقط أن أقول لك قبل أن نفتح نقاشا حول ما بحت به أنني تداولت طويلا في الأمر مع نفسي قبل إعلانه. أقصد أنه لم يصدر عن حالة عابرة أو عن انفعال مفاجئ أو عن نية اعتراف بجميل.

قلت: أنا واثقة من صدق مشاعرك ولكني أكرر ما رددته كثيرا وهو أنني أعرف عن ثقة وتجربة أن اعترافك أو إعلانك صدر تلبية لرغبة من رغبات عديدة تعن للرجال عندما يقعون في أسر رغبة أو أخرى يسرعون بتفسيرها نوعا من أنواع الحب أو درجة من درجاته. أريد أن أكون واضحة معك. أنا لا أقلل بأي شكل من قيمة الرغبة ومن صدق وقوة المشاعر التي يمكن أن تثيرها أو تؤثر فيها، ولكني في الوقت نفسه أحذر من الخلط بين الرغبة والحب.

قال: أظن أنني أعرف عن الرغبات ما يكفي لتعريف حقيقة مشاعري تجاهك. أعرف عن رغبات إذا تحركت تناقضت مع الكثير من معتقداتنا وتقاليدنا، بل ومع توقعاتنا ومسئولياتنا. كثير من رغباتنا الداخلية قد تتسبب في أمور يصعب التحكم فيها. أعرف رغبات خربت وفي أمثلة عديدة دمرت أو أهلكت. وأعرف رغبات ارتقت بأصحابها إلى أعلى مراتب الحياة.

قلت: نحن متفقان كما يبدو. أضيف بأن الرغبة وإن كانت مشروعة وضرورية يبقى تحققها مرتبطا بالسلب أو بالإيجاب برغبات أخرى. الأمومة رغبة بالغة السمو والرقي ومع ذلك تتحقق على حساب رغبات أخرى. نلتزم تلبية رغبة بعينها فنرتكب خيانة رغبة أخرى قصرنا في الوفاء بها. أريد أن تخرج من هنا واثقا بأنك حققت إضافة ولم تقصر.

قال: أظن أنني فهمت ما تقصدين وترمين إليه، وها أنا أسبقك بالرد عليه.  نعم كثيرا ما يترتب على الاستسلام لرغبة بعينها أن يعيش الفرد منا بعدها متراوحا بين الشعور بالذنب والشعور بالعار. أتحفظ وأقول أنني لست مع  قمع الرغبات إلى حد الإصابة باليأس وداء الحرمان. الرغبة تأتي تصحبها مخاطرها وفي ظني أن التصدي بإصرار لهذه المخاطر شرط كاف للحب.

قلت: عزيزي. لا أطلب منك التخلي عن الرغبة إن وجدت، ولكني أطلب التروي في إطلاق كلمة الحب. أعذرني إن امتنعت عن مسايرتك على طريق الحب استنادا لرغبة تشبهت بالحب وراحت تلح فإن أنت أشبعت الرغبة فتر الحب أو اختفى. لن يبقى لنا منه إلا الحرمان وعدم الرضا وخيبة الأمل.

قال: الحب تطور رائع لمقدمات متنوعة من بينها خليط الرغبات. أعرف عنك عمق الإحساس وحسن التقدير. أنا واثق أنك تدركين بقدر ما أدرك أن لا حب يرجى من علاقة خلت من رغبات أو تعالت عليها. أرجو أن تفهمي ما أرمي إليه. أنا هنا لا أدافع عن رغبة وإنما عن حب.

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

Exit mobile version