طلال سلمان

كنيست اميركي

لا يحب الأميركيون التاريخ. إنه فضيحتهم الكبرى.
أما إسرائيل، ومن خلفها أكثرية اليهود، فقد نجحت دائمù في توظيف التاريخ بعد تغليفه بالأسطورة الدينية، كأعظم استثمار »معنوي« لتحقيق مكاسب »مادية« مباشرة في مختلف المجالات (الاقتصاد، الاعلام، السمعة الدولية) وخصوصù في الجغرافيا، أي »على الأرض«.
وأما العرب الذين لم يتبق لهم إلا التاريخ فهم يخسرون أو يتنازلون عن الجغرافيا، أي عن الأرض الوطن الدين بما يكاد يخرجهم منه ومنها إلى تيه الاندثار.
أمس باشر الكونغرس الأميركي بشيوخه الثلاثة والتسعين، والذين سرعان ما عزّزهم ثلاث مئة وأربعة وسبعون نائبù، عملية إجلاء العرب عن جغرافيتهم وتاريخهم، تمهيدù لشطبهم نهائيù كأمة، ومن ثم كدول ذات أباطرة وسلاطين وأعلام وجيوش مزركشة للاحتفالات وطائرات تطلق الدخان الملون في عيد الجلوس وقنوات فضائية لتعميم صور البيعة وإذاعات عابرة للقارات بالدعاء بطول العمر للملك السلطان الرئيس الأمير الشيخ المفدّى حفظه ا”.
أقل من خمسمائة »صوت« في الكونغرس الأميركي بمجلسيه تكفي لإعلان الولايات المتحدة الأميركية دخولها الحرب الصليبية، متأخرة عن موعدها الأصلي حوالي ألف عام.
وهؤلاء لم يتخذوا قرارهم الخطير سرù، ولا حاولوا تهريبه خلسة ومموهù، وعلى الطريقة البريطانية حرصù على مشاعر »أصدقائهم« العرب، ناهيك بالحرص على المصالح الأميركية الهائلة في الأرض العربية التي تكاد تغدو، من دون القدس الشريف ومكة المكرّمة ودمشق والقاهرة وبغداد، يبابù قفرù تتناثر في أرجاء صحرائه الشاسعة مجموعات من القبائل المتناحرة والمتحاسدة والبائسة والمعلق مصير كل منها حتى انتهاء حرب داحس والغبراء!
لقد اتخذ القادة الأميركيون قرارهم هذا بينما »أشراف العرب« وكبراؤهم وأولو الأمر فيهم بين ظهرانيهم، يتملقون إدارتهم ويؤكدون الولاء لمخابراتهم المركزية، وينثرون ملياراتهم على مصانعهم الجبارة لشراء إنتاجها الكاسد الذي لا حاجة لهم به ولا قدرة فيهم على تشغيله.
تكريمù لأمير المؤمنين المتحدر من النسب الشريف ورئيس لجنة القدس الحسن الثاني صاحب المغرب،
… ولسليل بيت رسول ا”، المليك الهاشمي والوصي على القدس كأمانة في عنقه الحسين، صاحب الأردن،
.. وتكريù لرهط العباءات المعطرة برائحة النفط، والتي كان مقدرù لها أن تهز العالم لو أن مَن يرتديها في مستوى ما يملك، أصحاب الجزيرة والخليج،
.. وتكريمù لأسراب الضباط الذين استولوا على السلطة في غير بلد عربي ذات ليل بهيم، بذريعة الثورة على تسلط الملوك والقيادات »الرجعية العميلة« وطغيان »الطغمة المالية«، وانتهوا بأن قدَّموا من التنازلات ما لم يجرؤ عليها الأفسد من أبناء الأسر الملكية والاقطاعية البائدة،
تكريمù لهؤلاء جميعù، واحترامù لمن وما يمثلون، اتخذ خمسمائة رجل في واشنطن القرار بإخراج القدس نهائيù من العرب ومن عروبتها، من النصرانية والنصارى، من الإسلام والمسلمين، وإعلانها عاصمة موحدة وأبدية لدولة يهود العالم كافة، والمرشحة لأن تكون الدولة المركزية للشرق الأوسط الجديد: إسرائيل!
* * *
أهي الحملة الصليبية الأخيرة، أم أنها نقطة البداية للحرب الصليبية الآتية والتي سوف يسرِّع مودعها هذا القرار الأميركي المخالف »لمتطلبات التاريخ والجغرافيا والعقل«، على عكس ما وصفه شمعون بيريز مهللاً، يوم أمس، وفور الإعلان المدوي عن صدوره.
ويمكن القول، بغير تعجل، ان هذا القرار الذي اتخذ بتصميم ونتيجة لتخطيط وجهود استغرقت سنوات، هو إعادة تأسيس جديدة لاسرائيل ليس كدولة صغيرة وغريبة وعادية ومستعدية على المنطقة، ولكن بوصفها »الدولة الكاملة« أو ربما الدولة الوحيدة على امتداد هذه الارض البلا أصحاب والبلا هوية والتي يعيش فوق ترابها أو رملها أكثر من مئتي مليون من »الهوام«!
انها ليست حربù ضد الامس أو ضد الحاضر العربي، انها حرب ضد الغد العربي، حرب تستهدف الغاء اصحاب الحق فيه وبالتالي جعله غير ذي موضوع.
ليس ثمة خطأ في التقدير، أو تسرع في اعلان ما يجب كتمانه، انه بعض برنامج بيل كلينتون الانتخابي، في الدورة السابقة، ومرتكز برنامجه وبرامج خصومه في المعركة الانتخابية المقبلة، بعد عام من اليوم.
انهم يقترعون في واشنطن على عواصمنا. على نسائنا وأبنائنا وقبور موتانا. على اجداث انبيائنا وابطالنا.
لقد اقترعوا، أمس، على مهد عيسى المسيح وقبره ودرب الجلجلة وكنيسة القيامة.
اقترعوا على الاسراء والمعراج والبراق و»دابة« عمر بن الخطاب وسيف صلاح الدين.
لقد بدا الكونغرس وكأنه »الكنيست الأكبر«، حيث يتوحد الليكود والعمل والمستوطنون والحاخامات المتشددون، ولا ينقسمون بين يسار ويمين، أو بين متطرف ومعتدل.
انهم موحدون تمامù ضد العرب، بمسيحييهم والمسلمين،
الضعف يغري، وها هم يستقوون على هذه الحفنة من المهزومين، وغالبù بغير قتال، ممن يزحفون طلبù للسلامة، مقدمين في سبيلها الارض والولد والتاريخ والثروة ماعدا اللقب المهيب وعدة القمع اللازمة »لحفظ السلام« وحمايته من »الارهابيين«.
انها الحرب الصليبية الجديدة بصورتها الكاملة ولا مجال لتمويه طبيعتها او تبريرها بالاكاذيب الدبلوماسية.
لقد نجح كلينتون في انتخاباته بجثة بغداد التي قتلها »صاحبها« قبل ان تصلها جيوش »التحالف الدولي« بزمن بعيد،
وها هو الان يتبارى مع خصومه و»الجائزة« جثة القدس الشريف، التي يبدو وكأن لا »صاحب« لها، لان اصحابها ضيعوها وهم يصطرعون على جلدها!
انها طلقة الرحمة الاميركية على »السلام« و»مسيرة السلام«(؟)، وهذا امر لن يُحزن ابدù الطامحين الى سلام حقيقي مؤهل لصنع التاريخ الجديد فوق هذه الارض القديمة والتي من عبقها وُلد التاريخ والاديان والحضارات، والتي قد تسرِّع هذا التجريح اليومي المنهجي في ولادتها الجديدة.

Exit mobile version