طلال سلمان

كل لبنانيين امام تحقيق دولي قتلة وضحايا

تحوّل لبنان، بدولته الهشة ومؤسساتها الرسمية جميعاً، سياسية وأمنية، قضائية واقتصادية، تربوية واجتماعية، وصولاً إلى الاتصالات بأجهزتها الثابتة منها والمحمولة، إلى فضيحة دولية يتناوب على استثمارها والاتجار بأمن شعبها العالم كله، بالدوائر السياسية والدبلوماسية والأمنية فضلاً عن الإعلامية التي وجدت في «تفاصيله» مادة دسمة تختلط فيها الحبكة البوليسية بالفضيحة الدبلوماسية بطوائف التحولات السياسية… خصوصاً بعدما طرحت في سوق التداول «التسريبات» عن التحقيق الدولي والقرار الاتهامي والتكهنات حول المحكمة الدولية في جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، مع كل التفاصيل المسلية عن شخصيات قضاتها المتعددي الجنسية، مع تخصيص اللبنانيين منهم باهتمام استثنائي، ربما بسبب إنجازاتهم في الداخل، وقبل انتدابهم إلى هذا الموقع الممتاز!
لقد قسم التحقيق الدولي اللبنانيين إلى «صنفين»: قتلة وضحايا!.. مع إمكان التعديل بالإضافة والحذف، كأن تشطب سوريا، على غير توقع من خانة المتهم بل المدان من قبل المحاكمة، لتصبح «وسيطاً» يكلف مشكوراً، ببذل الجهد ـ بالاشتراك مع المملكة العربية السعودية ـ من أجل التسوية بين مقتضيات السلامة العامة وموجبات العدالة المسقطة بالمظلة على البلاد التي تضيق أرضها ببراكين الفتنة. وكأن يطلق الضباط الأربعة بعد حوالى أربع سنوات من الاحتجاز الظالم من دون تهمة، مع حرمانهم حق مقاضاة سجانيهم!
ولأن أهل النظام العربي منقسمون أصلاً، متقاطعون غالباً وعلى حافة الحرب بعضهم ضد البعض الآخر في أحيان أخرى، فقد جاءت الجريمة لتوفر استثماراً جديداً للمتصارعين خارج القضايا التي تقرر مصائر بلادهم، وأولها وأخطرها قضية فلسطين التي «تذوَّب» منهجياً على أياديهم البيضاء فينزلون بها من القضية المقدسة إلى مستوى «المسألة الخلافية» مع الاحتلال الإسرائيلي ومَن معه… ثم يهمل أصل الموضوع ليتركز الجدل، ومن ثم الخلاف، على مساحة الأرض التي «يحق» لإسرائيل أن تزرع فيها المستوطنات وجدار الفصل العنصري، وحول «هوية» القدس وبين أن تكون عاصمة أبدية لإسرائيل أو يكون في فضائها متسع لعلم فلسطين يرفع فوق مبنى ما كدليل على أن شعباً ذا حضارة قد عاش في هذه الأرض لألفي عام تقريباً، أكثريته عربية (إسلامية ـ مسيحية) وبينهم أقلية يهودية لم تعانِ يوماً من الاضطهاد الديني أو التمييز العرقي أو السياسي.
[ [ [
ليس «التدويل» جديداً أو هو أمر طارئ على لبنان. والحقيقة أن «كيانه» قد أنشئ أصلاً، بصيغته الفريدة الحالية، بقرار دولي جاء من خارجه، وطوع داخله لمقتضياته. كذلك فإن «استقلاله» قد تم ـ كمعظم الاستقلالات العربية ـ بقرار دولي، ونتيجة للتحولات التي فرضتها نتائج الحرب العالمية الثانية. ربما لهذا كانت «دولته»، والدول العربية الأخرى من حوله، ترتج وتكاد تتهاوى مع كل حدث كبير في المنطقة… وكان ذلك بين ممهدات إقامة إسرائيل عبر الهزيمة العربية في فلسطين، إلى موجة الانقلابات العسكرية التي أعقبتها في غير دولة عربية.
وبالتأكيد فإن جريمة الاغتيال قد أحدثت زلزالاً في هذه الدولة الصغيرة والضعيفة والمهددة بالتشقق دائماً، لكن توكيل «المجتمع الدولي» بتحقيق العدالة كان جريمة أفظع، إذ أنه لا بد أن يتحول لاحقاً إلى مدخل إلى الحرب الأهلية.
الأسباب قاطعة في وضوحها بحيث لا تحتاج إلى شرح وأهمها:
÷ أولاً ـ هشاشة الوضع الداخلي الذي يختزن خلافات جدية (وتاريخية) يعود بعضها إلى لحظة إنشاء «الكيان» بقرار دولي لا علاقة «للرعايا» به، وتثبيت نظامه الفريد بالارتكاز إلى عوامل انقسامه بدل أن يكون المدخل إلى التوحيد.
÷ ثانياً ـ الضياع العربي الشامل، واضمحلال التأثير السياسي لهذه المجموعة العربية (20 دولة مرشحة للازدياد!!)… وقبل ذلك ومعه وبعده: تدمير الحركة الشعبية ومنظماتها الجامعة (الأحزاب أساساً)، ومطاردة قوى التغيير بالذهب والسيف حتى تدجينها مما يذهب بمنعة الدولة وتماسك المجتمع في مواجهة التحديات المفروضة عليه، بقوة الاحتلال أو الهيمنة الأجنبية، أو بانعكاسات الهزيمة في مواجهة العدو الإسرائيلي، وقد تأكد أنه يشكل القوة القاهرة المانعة لتقدم أي دولة عربية في اتجاه مستقبل يليق بكرامة شعبها وطموحه إلى تأكيد هويته الوطنية ومعها المنعة والتقدم والعدالة الاجتماعية.
÷ ثالثاً ـ استثمار هذه الجريمة المدوّلة بطبيعة الملابسات المحيطة بظروفها والمنازعات السياسية المحلية بوصفها استثماراً دولياً، لضرب المقاومة كفكرة قبل الحزب، وكمنهج في مواجهة العدو الوطني والقومي، لا سيما وقد أثبت نجاحه بالانتصار وإجلاء الاحتلال الإسرائيلي عن الأرض اللبنانية كافة في 25 أيار 2000.. وصار شبحاً يقلق أهل النظام العربي في أن يكون القدوة والمثال… ثم في مواجهة الحرب الإسرائيلية ومنع العدو من تحقيق أهدافه وأولها القضاء على فكرة المقاومة وحزبها وجمهورها.
÷ رابعاً ـ مع الاحتلال الأميركي للعراق وجدت «الدول» مسرحاً مثالياً لتفتيت إرادة الأمة بالفتنة، مذهبية أساساً وطائفية وعنصرية محتملة، والتي يمكن أن تمتد لتشمل المشرق العربي كله من اليمن وصولاً إلى لبنان..
يمكن، بالتالي، التأريخ لمحاولات إشعال الفتنة باحتلال العراق في ربيع 2003، ولعل الإدارة الأميركية قد وجدت في استعادة فرنسا شيراك إلى بيت الطاعة الأميركي في منتصف عام 2004 مناسبة لتحريكها في إشغال مقاومي الاحتلال في سوريا ولبنان وفلسطين وداخل العراق، بطبيعة الحال، بالفتنة الداخلية وإلزامهم بموقع الدفاع بدل الهجوم أو تعزيز مقاومة الاحتلال.
كان لا بد من نزع صفة المقاومة الوطنية الجامعة عن أي اعتراض على الاحتلال العسكري وسائر أشكال الهيمنة الأجنبية على البلاد العربية… وهكذا تم تصنيف المقاومة للاحتلال في العراق «سنية» مع دمغ «الشيعة» بتهمة التواطؤ معه، أما مقاومة الاحتلال الإسرائيلي في لبنان فهي «شيعية»، وقد تأكد ذلك عبر مواجهة الحرب الإسرائيلية في تموز 2006… ولما تعذر تصنيف المقاومة الفلسطينية طائفياً تمّ دمغها بأنها مجرد أداة في خدمة أغراض غير عربية!
هذا في الوقت الذي كان العالم يقبل من إسرائيل أن تصنف نفسها «دولة يهودية ديموقراطية» مفتوحة ليهود الكون جميعاً ولكل من يقسم «يمين الولاء» لها، بما يعرّض أهل الأرض الأصليين والدائمين ـ فلسطين ـ بالطرد من نعيمها إلى أية جهة تقبلهم كلاجئين! وهذه خطوة عريضة على طريق طويل يفضي إلى تهديم ما تبقى من معالم «الدولة المستقلة» في أية بقعة عربية.
[ [ [
مَن يقبل الافتراض أن جريمة اغتيال الحريري «صناعة محلية»، ولأسباب سخيفة كالصراع على السلطة والتنافس الطوائفي داخل النظام اللبناني هو أحد اثنين: إما أنه مغفل ساذج وإما أنه متواطئ مع القتلة.
إنها جريمة ضد الإنسانية حقاً، وشعب لبنان بكل أطيافه، بعض هذه الإنسانية، فضلاً عن كونها جريمة ضد الوطن ووحدة شعبه وهويته العربية وحقه في الحياة وفي التقدم.
.. وبالتالي فالمستفيد منها، حكماً، هو العدو، إسرائيلياً صريحاً كان أم بنداً في مخطط الهيمنة الأميركية على المنطقة بأسرها، والمشرق خاصة، عبر استغلال الفتنة المذهبية التي يسهل النفخ في نارها نتيجة تهافت معظم أهل النظام العربي وغربتهم عن شعوبهم واستسلامهم لأعدائها بل وتواطئهم معهم.
وها هم أصحاب القرار في إنشاء المحكمة «الدولية» وفي مسار التحقيق «الدولي» والقرار الظني «الدولي» يكشفون أوراقهم تدريجياً عبر التسريبات الصحافية التي تطلقها «أوساط» المدعي العام الدولي أو يعلنها بلسانه، أو عبر إيماءات وإشارات صادرة عن مسؤولين غربيين، أو بألسنة إسرائيلية رسمية فصيحة.
لقد هزُلت… وصارت الوقائع التي «تُسرّب» والتصريحات التي يطلقها المدعي العام الدولي أو بعض قضاة المحكمة (فضلاً عن تصرفات لجان التحقيق أو بعض قضاة المحكمة) مدعاة للسخرية، على كونها تفضح مَن يوظف الجريمة كاستثمار ممتاز، ضد اللبنانيين جميعاً، بل ضد العرب جميعاً، وبما لا يخدم إلا الاحتلال، إسرائيلياً كان في فلسطين وما جاورها، وأميركياً في العراق، من ضمن مشروع الهيمنة المطلقة على المنطقة العربية، مغرباً ومشرقاً، اعتماداً على السلاح الفتاك: الفتنة…
هل ثمة فرصة بعد لتفادي الكارثة؟
الحريصون على لبنان وسلامة أهله يقولون: نعم… وهذه خلاصة ما قاله الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله، يوم أمس.
فلنأمل أن يقدروا. فلنأمل أن ينجزوا.. بالتعاون مع هذا الشعب الذي يرى أنه يُدفع إلى جهنم الحرب الأهلية دفعاً بشهادة ما تقوله إسرائيل يومياً، لعلنا نكفيها عبء مواجهة جديدة مع مقاومي مشروعها للهيمنة على بلادنا، ودائماً بالتواطؤ مع راعيها الأميركي.

Exit mobile version