طلال سلمان

كل «الامم لبنانية» شريكة في اغتيال حريري

ليس أعنف أو أقسى من «الشعوب اللبنانية» في مواجهة بعضها بعضاً..
ولأن لهذه «الشعوب» رعاة سياسيين في المحيط العربي وفي الخارج الأجنبي، وكلهم مُختزَن في البلد البلا داخل، فإن أي مواجهة «محلية» تتخذ على الفور أبعاداً دولية!
مع أي اختلاف في الرأي أو في الموقف من المسائل الراهنة، سياسية عامة تتصل بفلسطين، مثلاً، كقضية قومية وحقوق لشعب شقيق في أرضه، أو اجتماعية ـ اقتصادية، أو تربوية ـ تنموية، تنشق «الشعوب اللبنانية» إلى «أمتين تامتين» أو ربما إلى أمم شتى، وتكتشف كل «أمة» أنها تختلف مع الأخرى حول كل شي: بدءاً من خلق الإنسان والقيم والمفاهيم، مروراً بالموقف من الاحتلال الأميركي للعراق، والتواطؤ العربي على الحق الفلسطيني، وانتهاءً بأسباب أزمة المرور وانقطاع الماء والكهرباء وقصور التعليم الرسمي في مهمة بناء الأجيال.. والمطرب المفضّل والراقصة المبدعة والدور الثقافي المميّز لأبراج الحظ والكلمات المتقاطعة!
إن الخلافات والانشقاقات والمصادمات التي تصل حد استخدام السلاح، أحياناً، تكشف عمق المساحة الفاصلة بين هذه «الأمم اللبنانية» التي تتبادل الاتهام بنقص الولاء الوطني، فإذا بعضها «فرنسي» بالتقادم، وبعضها الأكثر عصرية «أميركي الارتباط»، في حين يواصل بعض ثالث إظهار «ولائه لسوريا»، مقابل مَن لا يحيد عن «الالتحاق بمصر»، قبل أن يظهر مَن يؤيّد سياسة إيران حتى الإيمان بولاية الفقيه (ولا يهم أنه غير مسلم أصلاً بل وليس من الشيعة الإمامية)… وها أن العائدين إلى الخيمة التركية بالحنين إلى «السلطنة» يتزاحمون على باب الإعجاب بشجاعة الطيب أردوغان وحنكة الرئيس عبد الله غُل ودهاء وزير الخارجية أحمد داود أوغلو..
هذا إذا ما تجاهلنا طوابير الذين سلّموا بأن قدرنا إسرائيلي، ولا راد لهذا القدر!
[ [ [
… ولأن اللبنانيين «أمم شتى» فإن الولاءات المختلفة كثيراً ما تأخذهم إلى مواجهة بعضهم البعض بالآراء التي سرعان ما تتحوّل إلى عصبويات، فإذا ما استثيرت المشاعر والغرائز الطوائفية، نزل الكل إلى ساحة المواجهة يتقاذفون اتهام بعضهم البعض بارتكاب الفواحش كنقص الولاء الوطني والانقياد كأتباع للأجانب والأغراب أعداء السيادة والاستقلال والهوية الوطنية.
ربما لهذا يتصدّر العديد من أصحاب التاريخ الملطّخ بدماء الضحايا من «أصحاب الحل والربط» مواقع قيادية في هذا الوطن الصغير المشروخة وحدته منذ استيلاده قيصرياً مرتين: الأولى في أعقاب فتنة 1860، وعلى قاعدة طائفية معلنة، ومرة ثانية بعد الحرب العالمية الأولى وتوزع الاستعمار البريطاني والفرنسي «المشرق» برمته بما مهّد ـ عملياً ـ لإقامة «دولة إسرائيل» بالقوة على أرض فلسطين وتشريد شعبها (الذي ما زال مشرداً… بل إن العدو الإسرائيلي يواصل طرد من تبقى في «الداخل» تحت الاحتلال).. وبالتأكيد فإن ما ساعد في انهيار «المعجزة اللبنانية» هو الانهيار العربي العام، والتباعد إلى حد العداء بعد خروج مصر من الصف العربي وعقدها معاهدة الصلح مع العدو الإسرائيلي… وكان لا بد من كثير من الدم في لبنان لتمرير تلك «الجريمة القومية»، ثم توالت الحروب التي التهمت الأحلام العربية بالتقدم والتحرر: الحرب العراقية ـ الإيرانية، غزو صدام حسين الكويت، ثم «حرب التدخل» بالقيادة الأميركية (والمشاركة العربية!!)… وبعدها الحروب الإسرائيلية على لبنان بهدف القضاء على المقاومة التي أكدت نجاحها، ولمنع انتشار عدواها بما يجدّد شباب الكفاح المسلح الفلسطيني.
… وعندما أقدمت الإدارة الأميركية على احتلال العراق كوريث لنظامه الدكتاتوري الذي قضى على أسباب منعته، كان لا بد من إرهاب سوريا والإفادة من الخلخلة التي ضربت التماسك الممسوك «للأمم اللبنانية»، وهكذا تمّ استصدار القرار 1559 في الأول من أيلول 2004 من مجلس الأمن الدولي الذي استهدف ـ قبل سوريا ومعها ـ المقاومة المجاهدة في لبنان…
ولقد وُجد بين «الأمم اللبنانية» مَن أيّد هذا القرار، برغم وعيه أنه يكاد يكون بمثابة إعلان حرب دولية على مبدأ المقاومة في لبنان والمنطقة لمنع انتشار الظاهرة المجيدة واتساعها، بحيث تبلغ العراق الذي كان الاحتلال قد أدخله في دوامة من دماء بنيه التهمت مئات الآلاف وشرّدت الملايين منهم وفتحت الباب لفتنة طائفية ـ مذهبية ـ عرقية لا تبقي ولا تذر، أو تعزز صمود الشعب الفلسطيني خلف مطلبه العادل باستنقاذ بعض البعض من أرضه لدولته ـ الحلم.
[ [ [
كانت الأهداف الأساسية للقرار 1559، الذي نعرف الآن أنه تمّ بتواطؤ أميركي ـ فرنسي (في عهد جاك شيراك) واضحة ومحددة: إلزام سوريا بموقف دفاعي ضعيف يلجمها عن رفع الصوت بالاعتراض على الاحتلال الأميركي للعراق، وينذر «بطردها» من لبنان، ويشغلها بحماية ذاتها.
وفي الوقت ذاته فإن ذلك القرار الذي يصوّر المقاومة ميليشيا خارجة على القانون (المحلي والدولي) إنما تزامن مع الجريمة الإسرائيلية باغتيال الرئيس الشهيد ياسر عرفات والتي أوهنت حركة المقاومة الفلسطينية وكشفت عجز «السلطة» عن حماية قيادتها فكيف بهدف التحرير.
ثم إن هذا القرار الذي يكشف خواء المؤسسات الدولية، وأساساً مجلس الأمن، وخضوعها بالمطلق للإرادة الأميركية، قد صوّر المقاومة ـ بمجاهديها وإنجازها الباهر بتحرير الأرض اللبنانية وطرد الاحتلال الإسرائيلي، وقيادتها الفذة التي احتلت قلوب الشعوب العربية والإسلامية ـ وكأنها «زمر ميليشيا خارجة على القانون» و«تهديد للسلم العالمي» وخطر مصيري على كيان العدو الإسرائيلي..
أليست تلك هي الظروف التي سبقت جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، إذا ما نحن استبعدنا الحبكات البوليسية المعدة سلفاً، وإذا ما استذكرنا أن الشعارات والشالات وحتى الهتافات كانت معدة سلفاً (بعد ترجمتها من تجارب أميركية في بعض الدول الخارجة من فلك الاتحاد السوفياتي بعد انهياره).
ألم تتوزع «الأمم اللبنانية» على جبهتين: بعضها يتهم سوريا، دولة وشعباً، ويطالب بطرد جيشها (وعمالها الذين قُتل العشرات منهم غيلة وبدم بارد) وبعضها الآخر يحاول أن ينبّه إلى المخاطر التي ستجتاح لبنان فتدمّر ما تبقى من وجوه «الائتلاف» بين «أممه» المختلفة، وأبسطها إخضاعه للإرادة الدولية، التي هي في خاتمة المطاف أميركية ـ إسرائيلية؟!
.. وكانت الفتنة على الباب، لا تنتظر إلا ما حصل فعلاً ـ بعد أربع سنوات طويلة ـ إذ تمّ تحويل إبرة الاتهام من سوريا، بقيادتها وجيشها الذي أُخرج من لبنان بطريقة لا تليق بروابط الأخوة، إلى المقاومة ومجاهديها ممثلة بـ«حزب الله».
كان ذلك توغلاً خطيراً في الطريق التي تؤدي إلى الفتنة..
… وها هي مخاطر الفتنة تشغلنا عن أبنائنا وعن أعمالنا، وتشل ما تبقى من «دولتنا» وتقسمنا إلى جبهتين متواجهتين تتهم كل منها الأخرى بالقتل وتدمير الوحدة الوطنية وتهديد الكيان وخدمة العدو الإسرائيلي!
[ [ [
إن قراءة، عن بُعد، لما تقوله «الأمم اللبنانية» بعضها في البعض الآخر، انطلاقاً من جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، تكشف جملة من الظواهر المخيفة في الواقع السياسي ـ الاجتماعي لهذا الوطن الصغير.
÷ أول هذه الظواهر: أن كل «لبناني» متهم بالمشاركة في هذه الجريمة المهولة، حتى يثبت العكس… فالمتهم (بالكسر) والمتهم (بالفتح) لا يستطيعان ـ كلاهما ـ نفي تهمة المشاركة في الجريمة بالتواطؤ أو بالكذب أو بالتستر على التواطؤ والكذب والتحايل على القانون وطمس الوقائع التي قد تقود إلى الجريمة، أو تسفيهها سلفاً لأنها لا تخدم اتهامه لمن يريد إدانته بل من أدانه فعلاً (وقبل التحقيق والقرار الاتهامي)..
فمن أكد اتهامه ـ بغير دليل ـ لطرف داخلي إنما برّأ أطرافاً خارجية، أولها إسرائيل ومعها وبعدها مخابرات دول عظمى لها أغراض في المنطقة عموماً (الاحتلال الأميركي للعراق والذي تمدّد فشمل أقطار الخليج جميعاً وصولاً إلى اليمن السعيد..).
و«الفتنة أشد من القتل» كما تعلّمنا من تجاربنا المريرة عبر العصور..
÷ أما الظاهرة الثانية: فتتمثل في التقديس المطلق للمحققين الدوليين، الذين جاء بعضهم من أجهزة مخابرات ليست بالضرورة «صديقة»، والذين ثبت أن بعضهم الآخر ليسوا من «المطهرين»، كما أن هؤلاء موفدون من طرف مجلس الأمن الدولي الذي يعرف الجميع أن الإدارة الأميركية تتصرف معه وكأنه إدارة جانبية تابعة لمجلس أمنها القومي، وبالتالي فلا يمكن الاعتماد على نزاهتهم وأمانتهم ومقاومتهم لضغوط الإدارة التي لا راد لإرادتها..
÷ وأما الظاهرة الثالثة: فهي التشهير بالقضاء المحلي، يومياً، واتهامه بالعجز، وأحياناً بالتواطؤ على سلامة اللبنانيين، ورفض اتخاذه كمرجع للعدل حتى وأصحاب العلاقة يمتدحون أركانه ويرفضون قبول أية شبهة حول نزاهتهم وكفاءتهم ويقظة ضمائرهم..
لقد سقط الرئيس رفيق الحريري شهيداً في 14 شباط 2005،
أما «الأمم اللبنانية» فتتبادل الاتهام بالقتل على مدار الساعة، كل يوم، وعلى قاعدة أن كل لبناني شريك في الجريمة، بالتنفيذ أو بالتواطؤ أو بالتستر على القتلة، حتى يثبت العكس..
وليست العدالة الدولية المركز الصالح لتبرئة «الأمم اللبنانية» من هذه الجريمة ومن جرائم أخرى أشد هولاً بينها اغتيال الوطن الصغير ودولته.. العظمى!

Exit mobile version