طلال سلمان

كلينتون ذو القرنين..

يستحق الرئيس الأميركي لقب »كلينتون ذي القرنين« بقوة المصادفة التاريخية التي جعلته على رأس بلاده وهي تدخل القرن الحادي والعشرين مزهوة بقوتها الاستثنائية التي مكنتها من أن تدمغ بخاتم هيمنتها عالم القرن العشرين وما بعده حتى إشعار آخر.
ولقد بلغ الزهو مداه في احتفالات التنصيب، بل هو قارب حدود التحدي لكل الآخرين الخاضعين او المخضعين او المهددين بالاخضاع للسيد الكوني المفرد، المطمئن الآن الى غياب »المنافس« وليس فقط »الخصم« او »العدو«، أقله في المدى المنظور.
العالم مجرد مدى حيوي، ومع القوة الخارقة للدولار لا ضرورة للسلاح، والاحلاف القديمة تبحث لنفسها عن وظائف جديدة بعدما تحول »الشركاء« السابقون فيها الى »وكلاء محليين« يرجعون الى واشنطن في شؤونهم الداخلية وليس فقط بمواقفهم الدولية: من الانتخابات الى الاقتصاد، ومن الصناعة الى التجارة، ومن المصارف الى أسباب التقدم العلمي والتقنية العالية.
وفي ما يخص العرب فإن صورة »كلينتون الثاني« لم تأت حسب التوقع المأمول، فبدلا ان تجيء بملامح الرئيس المرتاح من هاجس التمديد والأقدر بالتالي، وفقا للمنطق التقليدي القائل بأن »الثاني« يكون أكثر تحررا من »الأول« من ضغوط المؤسسة الصهيونية، فإن الصورة جاءت بملامح أقصى التطرف الاسرائيلي، ممثلا ببنيامين نتنياهو.
وبغض النظر عن القيمة الفعلية للرسالة التي وجهها »صديق العرب« في إدارة »كلينتون الاول«، وارن كريستوفر، الى نتنياهو ليعفيه فيها من التزامه بما كان حققه سلفه (الثنائي رابين بيريز) على صعيد المفاوضات مع سوريا، بضمانة الولايات المتحدة الاميركية، فإن حجم الرشى التي قدمت لرئيس الحكومة الاسرائيلية لكي يوقع »اتفاق الخليل« اضخم من ان تستبقي إطارا للتفاوض أو أساسا صالحا للانطلاق منه…
.. هذا إذا ما تجاوزنا عن طبيعة »اتفاق الخليل« كإنجاز اسرائيلي باهر يعزز موقع نتنياهو، ويمسح عنه صورة المتطرف ويعيد تقديمه للعالم من جديد بطلا للسلام، بينما يفرض فرضا على »خصومه« المحتلة أرضهم بعد، والمرفوض التفاوض الجدي معهم من أجل »سلام عادل ودائم وشامل«، صورة »الارهابيين« او »المتعنتين« او ربما »المتطرفين« والرافضين للسلام!
لقد انتصر نتنياهو في واشنطن، ومن ثم بلور انتصاره في الخليل، فأضاف الى قوته »العربية« بعدا جديدا، معفيا »كلينتون الثاني« من التزاماته القديمة تجاه العرب عموما، وتجاه سوريا (ومعها لبنان) تحديدا.
فاتفاق الخليل، بالشروط التي تم بها، هو اتفاق على سوريا ولبنان: الشكل أميركي والمضمون إسرائيلي، والتوقيع فلسطيني، فماذا يريد العالم أكثر من ذلك ليطمئن الى مسيرة »السلام«؟!
أما من بقي خارجها فربما يصنف في خانة »الخارجين على القانون«، مع ملاحظة ان الفوارق هنا ضئيلة بين ما هو »اسرائيلي« و»اميركي« وبالتالي »دولي«.
لقد هتك »اتفاق الخليل« استار ما كان تبقى من »الشرعية الدولية«، وأقام مرجعية بديلة لها »شرعيتها« المطلقة هي بالأساس اسرائيلية مغلفة ومحصنة بتأييد أميركي يسحب نفسه بمفعول رجعي على ما سبق أن التزمت به واشنطن فيلغي ما كان تحقق في ظل »كلينتون الأول« وما قبله وصولا الى مؤتمر مدريد.
وإذا كان »اتفاق اوسلو« قد صدع مدريد، وأضعف قيمة الضمانات الأميركية، فإن »اتفاق الخليل« يوحي بطي تلك الصفحة تماما والتقدم نحو الشعار الاسرائيلي: »الأمن مقابل السلام«.. وهذا أقصى ما يحق للعرب (المختلفين في ما بينهم على مفهوم »السلام«) ان يطلبوه.
فالسلام المصري، مثلا، غير السلام الأردني، والسلام الفلسطيني غير السلام السوري، والسلام اللبناني المعلق في انتظار السوري لينبع منه فيكمله.
أما السلام الاسرائيلي، فنسخة واحدة لا تبديل فيها ولا تعديل،
وليس على من يطلبه إلا خيار واحد: أن يقبله، وإلا فهي الحرب،
والحرب هنا لن تكون إسرائيلية فقط، بل ان رصاصاتها الأولى قد جاءت سياسيا من واشنطن، في حين كان العبوات الاسرائيلية الناسفة تتفجر في قلب دمشق، من دون أن تفسد »الاحتفالات بتحرير الخليل« في فلسطين المحتلة.
… والحمد لله أن الرؤساء اللبنانيين قد اقتنعوا، أخيرا، بضرورة وقف حروب الترويكا، والمعارك الضارية على تقاسم المنافع والمصالح والصفقات والتعيينات، مفسحين في المجال أمام القيادة السورية لكي تسعى إلى ترميم ما تبقى من »الموقف العربي«، في محاولة شراء للوقت لإعداد خطة ما لمواجهة التحولات في واشنطن.
وخلاصة التحولات في واشنطن ان »كلينتون الثاني« هو »آل غور الأول«، وأن بنيامين نتنياهو ولأنه الممثل »الشرعي« للتطرف الاسرائيلي هو الأقوى وأن تأثيره مرشح لأن يتزايد قوة داخل الإدارة الأميركية باطراد نسبي مع تفاقم التصدع في ما كانت أنتجته آخر قمة عربية من »وحدة موقف مؤقتة« لم تستطع ان تنجب إلا… اتفاق الخليل البائس.
هل يبدو كاريكاتوريا أن نطلب من أطراف »الترويكا« التفضل بتمديد »هدنتهم« ليمكن قراءة هذه التحولات الخطرة والاستعداد لمواجهة ما ستفرضه على سوريا ومعها لبنان من أعباء ثقيلة في السياسة كما في الاقتصاد، وفي السلاح كما في التحالفات الاستراتيجية كما في التحركات التكتيكية؟!
أعان الله دمشق، ومجموع اللبنانيين في الداخل والخارج..
ومن يدري فقد تتمكن الترويكا بقرونها الثلاثة من الانتصار على كلينتون ذي القرنين!

Exit mobile version