طلال سلمان

كلمن، كلمن، كلمن.. أحمد بيضون

على امتداد شهر أو يزيد، كان »أثر« أحمد بيضون هو وسادة متعتي وقلقي: كنت أرجع إليه كل ليلة فرحاً، مشوقاً، كمن يسعى إلى لقاء حميم، فإذا ما استغرقت في التهام صفحاته خفت من أن أصل إلى الأخيرة منها، وأنا في عطش إلى المزيد.
ما أجمله عنواناً: »كلمن«..
وما أمتعها لغة يزيّنها الوضوح الساطع حتى وهي تلج تلافيف التعابير والمصطلحات الفلسفية أو تخرج من المعاجم لتدخلك إليها باعتبارها دار معرفة وليست جعبة للأحاجي والألغاز أو أداة للتعمية، وإشعارك بعقدة النقص والجهل بلغتك وأعلامها وإبداعاتهم المهملة.
من زمان لم نقرأ مثل هذا »السهل الممتنع«، كنا نحسب هذا اللون من الكتابة وأصحابها قد انقرض أو سحب من التداول بوصفه أثراً من الماضي التليد، أيام كان للعرب علاقة فعلية بالثقافة، بألوانها المختلفة، وكان لهم دور ما في صنع الحضارة الإنسانية.
»كلمن« رحلة مبهجة تمتد »من مفردات اللغة إلى مركبات الثقافة«، متخذة شكل مقالات أو أبحاث أو مساهمات في ندوات، وهي بمجملها »عزيزة على صاحبها، إذ إنها تشكلت بين يديه وشكلته في مدة من العمر مديدة«:
»مخيلة الحروف«
»قواميس محبطة«
»حفريات فوق السطوح«
»لبنان وخلافه«
»خاتمتان«
هذه هي محاور الكتاب الذي يجيء فرصة لتقديم جانب من موسوعية أحمد بيضون، ومن إطلالته الواسعة على آفاق الثقافة وعلاقتها بالإنسان، تأخذ استهلالها من مقدمة ابن خلدون، أما خاتمتها فقد اختار لها المؤلف فصلاً وُضع بالفرنسية أصلاً ونُشر بالعربية ضمن أعمال المؤتمر الذي نظمته الحركة الثقافية بانطلياس في موضوع الثقافة والدين والسياسة وإعادة بناء لبنان.
من هذا الفصل نقتبس بعض كلمات أحمد بيضون:
».. أما في دائرة الآداب والفنون فكثيراً ما رأينا تيارات تقرع طبول التجديد ثم لا تلبث أن تنقلب إلى مدارس تقليد خاوية وفقاً للترسيمة ذاتها: أي باستتباع رأس التيار بلاطاً تاماً من المحاكين يتعبّدون له، معتبرين »طريقة« مغامرة أبدية الجرأة. ويحول العجز عن السيطرة على تاريخ الثقافة الغربية (أو على تاريخ هذا أو ذاك من قطاعاتها، في الأقل) دون رد بواعث الطفرات في الثقافة المذكورة إلى ذلك التاريخ. فتظهر عند الكثيرين من »المجددين« العرب أعراض ما نسميه »اتباعية المثقوفين« وهي أدهى من أصولية خصولهم. يزيد من شفاعتها أن الآخذين بها يتعلقون بأطر مجردة يستخرجونها من مؤلف أميركي ذي شهرة أو من مدرسة فرنسية مرموقة (وقد يكتمون الاسم زيادة في التحوط)، ليرموا بسهام التحقير كل معطى أدبي أو فني يمرق من تلك الأطر، وإذا صح أن الاتباع في الثقافة، متعصب دائماً، فإن التعصب، وإن كان مجدداً (أو أخذ يقفز من اتباع إلى آخر) لا يسعه على الإطلاق أن يجتنب التردي في الاتباعية.
»ولا ينجو الأفراد بعامة (من حيث هم محالّ للسياسة أو أعضاء في أسر أو مستهلكون الخ..) من أصداء (نفسية أو خلقية..) تطول إلى سلوكهم من هذه الازدواجية التي تخترق مجتمعات برمتها.. مجتمعات يتجاذبها منطلقان في العمل يجمعان التنازع إلى التواطؤ، ونظاما قيم متعارضان ومتداخلان في آن..«.
مَن »كلمن«؟!
»كلمن في ما يروي العرب ملك ملوك. ملك ملوك مدين. هلك مع قوم شعيب في عذاب الظلة. ورثته ابنته فقالت:
كلمن هدَّم ركني
هلكه وسط المحلة (..)
أما أركان كلمن من الملوك فكانت أسماؤهم: أبجد، هوز، حطي، سعفص، قرشت! وجعل بعض الروايات أبجد ملكاً على مكة والحجاز، وهوز وحطي ملكين على الطائف ونجد، والثلاثة الباقين ملوكاً على مدين. وقد رتبوا حروف العربية على أسمائهم فوجدوها ناقصة فأفاضوا ثخذ، ضظغ وسموها الروادف.
آسرة بساطة أحمد بيضون وهو يتوغل بك في الصعب، وممتع أسلوبه الذي يغويك فيقنعك بأنه إنما يعيد عليك قراءة ما تعرف، وتحار أهو يأخذك إلى المعرفة هازئاً من جهلك، أم يكشف لك جهلك محبباً إليك المعرفة عن طريق هذه اللغة التي تختلط فيها السخرية بالدقة العلمية واحترام الذات بحرفة تحطيم الأصنام فلا تنتهي من الكتاب إلا وأنت مقتنع بأنك لم تعرف بعد ما يكفي، من لغتك بدءاً، وعنها، ثم عن الثقافة عموماً، عربية كانت أو عالمية.
وحين يصل أحمد بيضون إلى طه حسين وحياته الثانية (وهي ورقة قدمت بالفرنسية في ندوة نظمتها »المؤسسة القومية الفرنسية للعلوم السياسية« بباريس) تصدر عنه إشارات تفيد بأنه قد عثر على »دوره« وعلى »موقعه« لإكمال ما كان باشره »عميد الأدب العربي« ثم انصرف أو صرف عنه، وحين أعيد إلى التداول فبكثير من الاحتفالية التي قد تذهب ببعض رصانته العلمية.
أما حين يناقش عبد الله العروي في موضوع الدولة فإن أحمد بيضون يضع يده على حقيقة مخيفة هي: أن لا دولة لدى العرب: فالعروي وحفنة من الناس معه يباشرون حديث الدولة، بين مشارقنا ومغاربنا، يوم عادت الدول على المحيط وعلى الخليج وفي ما بينهما، تكره الحديث في ماهية نظامها والبحث في أساس شرعيتها، وتستعيض عن هذا بالاكثار من ذكر مواقفها وبرامجها وتعلق الأمة بأشخاص قادتها… فكأنما باتت صيغ الحكم مسلمات، وتخففت الدولة من الحاجة إلى إقناع مواطنيها بشرعية السبل التي رفعت الحكام الى الحكم، وحسن الصورة المعتمدة للعلاقات ما بين هؤلاء وأولئك.
».. وأي دولنا هي المطمئنة إلى استقرارها بله استمرارها؟!
»عندي لكم، على كل حال، ترجمة أراها دقيقة لهذا العنوان وهي: »دوام الحال ودولته«، دوام الحال عوضاً عن الدولة إذاً، والدولة عوضاً عن الثورة. تلك هي الترجمة التي أراها مناسبة لتشاؤم لغتنا العميق بمصائر الدول. فالعرب بيننا، ومنهم العروي، يعلمون حق العلم أن دوام الحال بالعربية من المحال. فلا يبقى غير الأمل في أن يأتي المستقبل مخالفاً لحكم الأمثال والمعاجم..«.
أحمد بيضون، هذا المكتنز بالمعرفة، عيبه أنه مقلّ، وأنه لا ينشر علمه على الناس بقدر ما يحتاج إليه الناس.
»كلمن، كلمن، كلمن«، يا أحمد..

 

حكاية حب سابقة على الخواجا فالنتاين

عندما صار الحب سلعة صار له عيد وصار له شفيع، وتعرّفنا نحن العرب الذين كنا ندعي أننا ابتدعنا العشق إلى الخواجا فالنتاين أو فالنتينو، فلم نعد نعرف الحب إلا منه، ولا نهتدي إلى طقوسه إلا في عيده، ولا نطلب الوصال ممن نهوى إلا بواسطته وعبر الهدايا المبتكرة التي تحمل رسمه أو وسمه أو كسمه أو حسمه الخاص.. لمناسبة شهر التسويق!
وإنه لانقلاب خطير أن يصبح رمز الحب رجلاً بلا أنثاه.
فالحب اثنان، كما تعلّمنا الطبيعة والتجربة واستحالة الاكتفاء بالذات حتى لدى غلاة النرجسيين.
ومع أن الحب »حرفة« عربية، بدليل امتلاء ديوان الشعر العربي بالغزل، فإننا نستورد الآن »معشوقاً« أجنبياً لفتياتنا ثم نسعى إليهن باسمه، أو نتودد إليهن بشفاعته، أو نقلده لنلفت أنظارهن وخواطرهن المتجهة إلى مباهجه، ونحمل إليهن على نيته الورود والوعود، نتخطى بها الصدود أو السدود التي اجتهدت في إقامتها العادات والطقوس الموروثة من زمن التخلف والضياع عن مفاتيح القلوب.
قال لي الرجل العجوز: لم أسمع قط عن عاشق مفرد إلا الخواجا فالنتينو، دائماً أسمع عن حبيبين يذوبان إلى حد الانصهار في قصة خالدة واحدة، ولكنهما اثنان يتحدان لا واحد يصبح مجموعاً. قيس/ ليلى جميل/ بثينة كثيّر/ عزة وإن شئنا من الأجانب فالمثال الأشهر هو روميو وجولييت.
وقال لي الرجل العجوز: حتى من قبل أن يصبح للعطر أسماء شتى، ومن قبل أن تطحن الزهور وتذاب في سوائل مصنعة ثم توضع في القناني وتعطى لها هويات مصنعيها أو مبتكريها أو المصنَّعة على أسمائهم، كنا في »ضيعتنا« المحرومة من المياه والعطاشى أهلها، نجد من العطر أو الطيب ما نهديه لحبيباتنا أو نحمله إليهن صبابتنا والأمل في موعد للقاء.
وقال لي الرجل العجوز: سأحكي لك حكاية حب رجل تعرفه لم يسعده حظه بالتعرف إلى فالنتينو ولم يأخذ عنه علمه، ومع ذلك فقد ترك للناس واحدة من أروع قصص الحب التي سرعان ما صارت شعراً وغناءً وحداءً للقوافل.
كان فلاحاً فقيراً، ككل الناس. وكان له قلب كبير وصوت جميل وذاكرة متنبهة وقريحة طيبة كالقلة من الناس.
وكانت هي فلاحة ابنة فلاحين مثله. لم تكن الأجمل إلا في عينيه، لكنها كانت جميلة في عيون كل الناس.
لم تكن الدار قريبة من الدار، وكان اللقاء عزيزاً ودونه المخاطر. وكان العواذل دائماً بالمرصاد لحاملات الرسائل من القريبات المشفقات على هذا الحب الوليد من الضياع أو الاختناق في غياهب الصراعات العائلية أو الحزازات التي كانت تشق البلدة أحزاباً وشيعاً متناحرة.
انتبه الرجل إلى صوته: قال فلأطلق لوعتي وشوقي على لسان غيري من السابقين، فالناس يفضلون من المحبين الشهداء.
جلس الرجل على السطح الترابي لمنزله الفقير. كان الوقت غروباً والدنيا تدخل صمت الليل بوقار. أطلق صوته الشجي بلسان قيس بن الملوّح. لم يطل. غنّى أعظم الحب بأقل الكلمات. لكنه أطال في الآهات افتتاحاً وختاماً.
في الغروب التالي كان نصف أهل القرية على السطوح ينتظرون صوت الفرح وهو يغني لهم أحزانه.
أما في غروب اليوم الثالث فلقد قصد الفلاحون الفقراء بيت الحبيبة، يتشفّعون لدى أبيها ألا يغصبها فيزوّجها من غيره لأنه شبّب بها.
وعلى امتداد شهور الصيف، ظل الناس يتعجلون الانتهاء من تعب النهارات، ليصعدوا إلى السطوح، أو ليجلسوا فوق المصاطب وقد اجتهدوا في إشغال الأطفال بما يمنعهم عن الصياح والضجيج، لكي يسمعوا رنين أوتار القلب وهي تغني الحب للناس جميعاً فيسعدون.
فالحب يكتمل بالإشهار، وحين يصير كحكاية مشاعاً، يرى كل إنسان لنفسه فيه نصيباً، أو يدّعي أنه قد ساهم في توفير الهواء النقي الضروري لامتلائه ولانتشاره فرحاً لكل الناس.
غنِّ حبَّك، ولا تحجبْه. قال العجوز، وهو ينصرف مدندناً بأبيات ذلك الشاعر الذي أعطاه الحب عمراً لا ينتهي.

 

حروف مبعثرة

} العيد كالفرح، ينبع من داخلك ولا تجيئك به الروزنامة جاهزاً، ولا يحمله إليك بائع الحلويات أو تاجر الهدايا »واصلاً إلى المنزل«.
أعرف من يبيع الأعياد،
وأعرف كثيرين يشترون أعياداً مستعملة!
* * *
} تفاجئنا صورة الغد، إذا ما كُشف عنها النقاب بينما شمس اليوم تملأ الفضاء بنورها الباهر الذي يطمس ما خلفها.
لكن الناس يحبون »التجسس« على الغد، عبر الأبراج أو »البصارة البراجة التي تشوف البخت«. يفترضون أنهم بذلك يرونه من دون أن يراهم، ويكشفون أسرارهم المخبوءة فيه من غير أن يكشف وجوههم.
هل السر هناك أم فيك؟
ألست أنت، بذاتك، السر؟!
ثم ألست، بذاتك، ما بعد السر؟!
* * *
} تأخذنا الحياة إلى الموت..
أليس الأجدى أن نسأل بداية: ماذا أخذنا من الحياة؟!
الحياة معطاء، إذا اكتشفنا منابع الفرح فيها.
يخطئ من لا ينظر إلى الحياة، في عينيها، ومَن لا يعيشها ساعة ساعة، دقيقة دقيقة، ثانية، ثانية.
يستطيع الإنسان أن يصنع، أيضاً، عمره.
* * *
} أن أكون فيك يعني أنني حي.
أن أغترب عنك يعني أنني تائه عن نفسي، وأن »الشبح« الذي يتحرك بقدمي وينطق بلساني ليس إلا ما تبقى مني بعدك: آلة تبحث عن قلبها لتستعيد إنسانها.

 

من أقوال نسمة

قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
لا يعيش الحب في المبالغة، ولا يعيش الحب في القصور. يقبل الحب أن يعذرك، ولكنه لا يقبل أن تهمله. الحب الهواء. هل تنسى أن تتنفس؟! الحب شعاع شمس، فلا تفرض عليه التلطي في العتمة.

Exit mobile version