طلال سلمان

كريستين حبيب: اكتبي أكثر، لنحب الحياة أكثر!

من بين وجوه كثيرة تلتقي أصحابها، بالمصادفة أو بالقصد، قد يستوقفك وجه بالذات تقرأ فيه مطلع قصيدة أو سردية لمسيرة طويلة تبحث عن خاتمتها.

أحيانا تشدك اللغة وهي تبتعد عن المألوف لتتبدى أنيقة اختيرت كلماتها بالسكنات والمضمر فيها بألفة المعشر بحيث تخاطب فيك تذوق النحت.. العفوي.

ولقد لفتتني لغة كريستين حبيب بأناقتها، فضلاً عن فصاحتها التي لا تقصد فيها ولا افتعال.. وانتبهت إلى أنني بت انتظر إطلالاتها على الشاشة بشيء من الشوق إلى الوجه المريح بالمصباحين المشعين في عينيها.

على أن المفاجأة المفرحة كانت حين التقيتها في حفل تكريم أقامته الجامعة الأنطونية للشاعر اللبناني الكبير(ولو بالفرنسية) صلاح ستيتية.

كانت مع والدها الذي لا يخفي زهوه بها. وقال أنها تكتب الشعر، فأطرقت خجلاً وتمتمت: بل أنني أحاول..

ثم جاء صلاح ستيتية الذي تفترض انه أعشى، بنظارتيه السميكتين اللتين تخفيان عينيه، فإذا به يصلح لك ربطة عنقك، وينفض قشة عن سترتك.. فسلم بحرارة، متعرفاً إلي في قلب الحشد سلام صديق قديم، فسألتني: وهل لك علاقة بالشعر؟! قلت: كمتذوق.. تماما مثل علاقتي بالجمال.

انطلقت اروي لها أن صلاح ستيتية قد علمني آداب اللغة الفرنسية في الكلية العاملية ببيروت، وانه كان مفرداً في سلوكه، لا يخالط الآخرين، يمشي وحيداً وفي حقيبته التي تستبطن بعض محاضراته، مشاريع قصائد تنتظر الاكتمال، ينظر بعينيه الصغيرتين إلى البعيد البعيد حتى لا يكاد يرى ما يدانيه فيزحمه في الطريق.

ستمر فترة قبل أن نلتقي ثانية في مهمة تتصل بعملها.

سألتني وهي عند الباب تهم بالدخول: لماذا أنا؟ لماذا طلبتني شخصياً؟

قلت: لأنني أحسست انك معنية، فلك علاقة حميمة بالكلمة، وأظن انك تقولين الشعر، وإلا فما الذي جاء بك إلى تكريم صلاح ستيتية..

كان جو المقابلة محزناً، مع أن وجودها كان يشع فرحاً.. وفي نهاية اللقاء أهدتني ديوانها “عن نجمة هوت”.

تصفحت الديوان الذي بحجم قلب وقد زينته لوحة بالخطوط لامرأة تحتضن بيديها وردة حمراء. وبعدما أنهيت التصفح وجدت نفسي أباشر قراءته، فيشدني، وتعيدني القصيدة الرابعة إلى الأولى، ثم أحاول إكماله فأحس أنني أتسرع فاظلم نفسي واظلم الشعر المتدفق سيرة حياة من لهب.

كان لا بد من قراءة ثانية، فثالثة. ما هذا الطوفان من الحب الذي لا يلغي الاعتزاز بالذات؟! ما هذا الكبر الأنثوي الذي يذوب شوقاً ولكنه لا يقبل بالتجاهل ويرفض التنازل إلا لمزيد من العشق؟ من هذا المعبود الذي يستحق كل هذا الشغف، ثم تستبعده شبهة الاستئثار. هل تستوي المعادلة بين اثنين في واحد، أم أن على كل واحد أن يكون الاثنين معاً؟ هل تكونني فأكونك أم نكون حاصل جمع الانكسارات التي ليس فيها منتصر إلا مرارة الكبر وهوان الضياع لان الحب لا يقبل المساومة؟

العاشقة، الملهوفة، المتكبرة، القاسية في كرامتها، والتي يأخذها الشغف إلى العبادة، تتعاظم في كبريائها على الجرح ثم ترق فتحنو وتعطي القمر ضياءه.

العشق هو البداية والنهاية، هو امتحان الجدارة والفاشل فيه لا يستحق النسيان بل يسقط من ذاكرة القلب والجسد سهواً.

آه، الجسد، أي خرافة تلك التي تجرد الحب من الجسد وتجعله مجرد تهويم في فضاء المراهقة التي تأخذ إلى جلد الذات بوهم العشق.

أيتها العاشقة التي تعيش بالحب وعليه حتى يتقطر شعراً مصفى يأخذ إلى نشوة السكر: هلا كتبت المزيد، لنحب الحياة أكثر؟!

Exit mobile version