طلال سلمان

»كرنفال« دموي في عراق تحت لافتة »نقل سيادة«

قد لا يفيق اللبنانيون من الجدل (البيزنطي؟) حول التمديد أو التجديد أو انتخاب رئيس جديد، وهو مفتوح وممتد وممدود على صفحات الصحف وعلى مختلف قنوات الأرضيات والفضائيات، والمرشح لأن يتواصل بلا انقطاع طيلة شهور الصيف وبعض الخريف، إلا وقد اندثرت أو تمزقت ثلاثة كيانات سياسية عربية هي: العراق والسودان وفلسطين.
وعلى خطورة أمر الرئاسة الأولى في لبنان فإن ما يجري من حولنا، أو يدبر لمن حولنا، أخطر بما لا يقاس، بما يؤهله لأن يكون المبرر أو المسوغ أو »المحلل« لما هو »محرّم« أو »غير مستحب« في اللعبة السياسية الداخلية، كما يؤهله لأن يكون »سابقة« يمكن تكرارها مع كيانات أخرى في هذا الدومينو الذي تمّ تركيبه ارتجالاً مع انتصار »الحلفاء« في الحرب العالمية الأولى وتقاسمهم »المغانم« الموروثة عن الإمبراطورية العثمانية.
وبديهي أن لبنان بكيانه السياسي الراهن كان من ضمن تلك »التركة« التي تقاسمها الفرنسيون والبريطانيون واستعمروا أقطارها قبل ولادة الإمبريالية الأميركية التي تحاول الآن الهيمنة على العالم بغير شريك… وعلى هذا فهو معني مباشرة بإعادة الصياغة الأميركية للكيانات السياسية في هذه المنطقة، بالشراكة الظاهرة أو المستترة مع المشروع الإسرائيلي.
فأما تصفية فلسطين، قضية وأرضاً ومشروع كيان سياسي وسلطة فتتواصل منذ بضع سنوات، وهي قد دخلت الآن المرحلة الأخيرة من التنفيذ الإسرائيلي الجدي، وسط تواطؤ عربي شبه شامل لا تخرقه إلا الوساطة المصرية البائسة التي تأخذ من الفلسطيني بعض ما تبقى لديه، وهو أقل القليل، لتعطي السفاح أرييل شارون الذي يكاد يقضي على آخر المجاهدين بالاغتيال وعلى آخر الأرض الفلسطينية بالمستعمرات المحصنة بجدار الفصل العنصري…
وأما السودان فأمره، كياناً سياسياً متهالكاً وشعباً ممزقاً بالحروب الأهلية، في الأيدي الأميركية الأمينة، تقرر له إدارة بوش ما تستنسب مما يخدم مصالحها في دنيا العرب وفي القارة الأفريقية معاً..
ونصل إلى ذروة المأساة العربية المعاصرة ممثلة بما يجري في العراق وما يدبر له، من الخارج والداخل، مما لا سبيل إلى رده، كما توحي يومياته الدامية المرشحة لأن تتفاقم خطورتها بما يهدد وحدة شعبه وكيانه السياسي الذي بالدم قام وبالدم حكمه من حكمه وبالدم يعيش الآن لحظة مصيرية فاصلة.
فلن يكون تسليم الاحتلال الأميركي »السيادة« إلى هيئة الحكم التي استولدها »الدكتاتور بريمر« على حد وصف الوسيط الدولي الأخضر الإبراهيمي بعملية قيصرية قبل ثلاثة أسابيع، أكثر من كرنفال دموي مرعب.
فلا عجيل الياور، الذي يفضل لقب »الشيخ« وهو أصلي ودائم على لقب »الرئيس«، وهو معار ومؤقت، يمكنه أن يدعي أنه صاحب القرار، أو أنه »سيد قراره«.
.. ولا بالطبع ذلك »العلاوي« المتحدر من صلب حزب البعث والذي لما عزّ عليه الوصول إلى السلطة تحت قيادة صدام لم يتردد لحظة في الذهاب إلى المخابرات المركزية الأميركية، عبر المخابرات البريطانية، والذي يحاول التحدث الآن بلهجة »الحاكم« و»صاحب الإمرة« فتسفّه قوله الوقائع السياسية الأميركية كما الوقائع الميدانية في بغداد وسائر المدن العراقية المتشحة بدمها، والتي يعمل القتلة باسم »الجهاد« على زيادة التباعد بل والتباغض بين أهلها الذين يأخذهم الرعب إلى الاحتلال أكثر فأكثر باعتباره »مصدر الأمان«!
ما »السيادة« في بلد أرضه محتلة، ووزير الدفاع الأميركي يعلن عشية نقل السيادة، أنه سيزيد عديد قواته في العراق، وجنرالات الاحتلال لا يتورعون عن تقليد الإسرائيليين في إطلاق طائراتهم الحربية لدك منازل بل أحياء كاملة في مدن آهلة، محاصرة ومجوّعة، بذريعة أنها تؤوي »إرهابيين« وفدوا من »الخارج«… علماً أن هؤلاء »الإرهابيين« لم يقتلوا جندياً أميركياً واحداً، اللهم إلا عن طريق الخطأ، ثم إنهم يمهّدون لإحراق »أرض السواد« في فتنة عمياء بين العرب المسلمين أنفسهم، في استئناف مقصود ومتعمّد للفتنة الكبرى التي كادت تذهب بالدين الحنيف و»الدولة« الأولى للإسلام وهي لما تبلغ عامها الأربعين بعد..
وأنّى للعراقيين المهددين بالموت الجماعي في كل لحظة، تارة بسبب العرق، وغالباً بسبب الانتماء المذهبي، ونادراً بسبب الموقف السياسي المشتبه فيه، أن يتسلموا »سيادة« لدولة منهوبة الخيرات، مفتوحة الحدود لكل أنواع شذاذ الآفاق الذين يستوردهم الاحتلال لحماية أمنه، كما يستوردهم ناهبو الثروات العراقية الهائلة لحماية »المنهبة« التي، يحظى ضباط جيش الاحتلال بنصيب كبير منها كرشى علنية تفتح لها الحسابات (صريحة) في مصارف عمان وعواصم خليجية تقدم »البيزنس« على صلة الرحم…
لوهلة يبدو كأن »أبا مصعب« هو مساند أساسي للاحتلال الأميركي يقوم بما لا يقدر عليه من المهمات القذرة، فيسهم في »تنظيف« وجهه، ويحوّله إلى ملجأ بل وإلى منقذ..
أما في الوهلة الثانية فيبدو كأن »أبا مصعب« ومن معه ويقول قوله ويعمل عمله، إنما يكمل ما باشره طغيان صدام حسين الذي استنزف العروبة في العراق حتى آخر مضامينها المتسامية على العرقية والعنصرية والطائفية والمذهبية… استنزفها في حزبها القائد، البعث، الذي شكّل لمرحلة طويلة إطاراً نضالياً واعداً بغد أفضل، وفي الأحزاب القومية الأخرى، سواء تلك التي نافسته ذات يوم في الشارع، أو التي خرجت من صلبه لسبب أول وأخير هو الصراع على السلطة… ومعظم »الخارجين« ذهبوا بعيداً في عدائهم فانتهوا عند الأجنبي، أميركياً كان أم بريطانياً، وعادوا على متن دبابات الاحتلال الذي يعدّهم الآن لتمويه استمراره ودوامه عبر تسنّمهم سدة السلطة تحت عباءة »السيادة« التي فصلها على مقاساتهم، ومن سقط أُتي بغيره فألبسه العباءة ونادى »بسيادته« حتى يُقتل وهكذا دواليك، فماذا يضيره إن ماتوا جميعاً فداء لاستمراره؟!
إن »أبا مصعب الزرقاوي« يكمل مهمة الطاغية والاحتلال معاً، بل إنه كداعية للفتنة بالذبح الجماعي، والتكفير الشامل، يحقق ما عجز عن إتمامه الطغيان، وما يعجز عن تحقيقه الاحتلال منفرداً: إنه »يجاهد« لأن يقود العراقيين إلى حرب أهلية مفتوحة، قد يباشرها بين السنة والشيعة لتطاول ألسنتها من بعد العرب والكرد بغير أن تستثني التركمان وسائر الأقليات في »العراق السيد«.
وبالطبع فإن »للزرقاوي« شركاء وحلفاء موضوعيين على الضفة الأخرى قد يتوسلون الحرب الأهلية طريقاً إلى السلطة ولو في عراق مدمر، فثمة لأهل التطرف من السنة »رفاق سلاح« بين أهل التطرف من الشيعة، كذلك فثمة دعاة للفتنة تحت راية »الاستقلال« بين الكرد، وهكذا يذبح المسلمون المسلمين، والعرب العرب، والعرب الكرد، والكرد العرب، والتركمان الكرد (ولو بسيف الأتراك) والكرد التركمان، حتى يبدو الاحتلال كأنه »المخلص« الذي لا يتفق كل هؤلاء المقتتلين إلا عليه، ولو نهب كل الثروة واحتكر لنفسه النطق باسم العراق… فليس تنفع الثروة في إحياء المقتولين، ولا يفيد النفط في منع الحرب الأهلية بل إن الطمع في احتكاره سيصب مزيداً من الماء في طاحونة الحرب الأهلية.
خلاصة القول: إن الظروف البائسة التي يعيشها العراقيون لا تمكّنهم من الانتظام في حركة مقاومة ناشطة ومؤهلة للتنامي والتعاظم واستقطاب »المسحوقين« بالطغيان ثم بالحَوَل السياسي الذي لم يجد وسيلة أرقى من السيارات المفخخة ومن الذبح المتلفز للرعايا الأجانب، وتقطيع أوصال المواطنين العراقيين (المختلفين مذهباً) ومن قال قولهم من العرب الآخرين (حتى لا نغفل بعض المواطنين اللبنانيين الذين قتلوا لا لسبب إلا إذكاء نار الفتنة، وتعميمها بل تصديرها إلى خارج العراق)..
وهكذا يبدو كأن العراق، ككيان سياسي، معرّض للتلاشي بنار الفتنة، ممّا يمكن الاحتلال من أن يُظهر نفسه للعراقيين بصورة الملجأ ومن ثم المنقذ من المذابح الجماعية، وحامي الكيان ولتذهب »السيادة« إلى الجحيم… فما قيمة السيادة للمقتول أو المنذور للقتل؟!
* * *
المأساة أن لا أمل بنجدة لا من الداخل ولا من الخارج العربي، ولا من دول الجوار (العربي الإسلامي) التي تتباين مواقفها، وفقاً لمشكلاتها الداخلية ومطالبها (من الأميركيين)، ومخاوفها من امتداد النار إليها، وبالتالي سعيها إلى حصر النار في العراق مهما كانت مخاطرها المباشرة عليه، فهي بذلك تربح فرصة للتنفس وترجئ »المقدّر« ولو إلى حين.
الداخل متآكل، والخارج متهالك، فأين المفر؟
حمى الله العراق، ومعه فلسطين… إذ انعدمت المرجعية فلم يتبق غير الدعاء.

Exit mobile version