طلال سلمان

كتابــات علــى جــدار الصحافــة (24) ## هوامش

الأجهـزة الأمنيـة تملـي الأخبـار القضائيـة.. ولا مرجـع للتصحيـح!
الحـرب الإعلاميـة تشـتعل مجـدداً فـي بيـروت نتيجـة الانفصـال

عندما أفاق الفتى، صباح اليوم الأول لاستعادته حريته وجد رزمة من الصحف التي صدرت خلال فترة توقيفه إلى جانب سريره. واندفع يستعرضها متجاهلاً رجاء والدته بأن يفطر أولاً ثم يتفرغ لما يكدره، وما عليه ان تنساه.
بدأ بصحيفة «النهار» الصادرة ذلك الصباح، في 24 أيلول 1961، وقرأ في صدر الصفحة الأولى خبراً بارزاً بعنوان لافت: «إطلاق الموقوفين بقضية الصغير»، وقد جاء فيه ما نصه:
«استأنف أمس، المحقق العسكري نجيب الكفوري التحقيق في قضية الجزائري أحمد الصغير، واستجوب 15 شاهداً وردت أسماؤهم في إفادات أحمد الصغير الاستنطاقية، وقد أنكروا ان تكون لهم علاقة باعمال التجسس او تزويد احمد الصغير بمعلومات سرية تتعلق بمرافق الدولة، وذكروا انه كان يتصل بهم ويزودهم بمعلومات تتعلق بالقضية الجزائرية ويتحدث معهم عن نشاط بعض الاحزاب اللبنانية حيالها. وانهم قبلوا الدعوات التي وجهها أحمد الصغير لحضور حفلات ومآدب عن حسن نية.
«وقد أخلى الاستاذ الكفوري سبيل جميع الموقوفين باستثناء احمد الصغير واحد الصحافيين».
اما في العدد السابق فكان «الخبر» المنشور (23 أيلول 1961) يفضح التوظيف السياسي لهذه القضية، إذ كان العنوان بهذه الصيغة: «التحقيق مع شيوعيين تعاونوا مع الجزائري ـ التحقيق يثبت تغلغل الشيوعيين في صفوف الحزب التقدمي الاشتراكي».
في العدد الصادر في 19 أيلول 1961 كان عنوان الخبر الخاص بهذه القضية، «توقيف موظفين في قضية الجزائري بعد استئذان وزارتي الخارجية والاقتصاد».
أما في 9 أيلول 1961 فكان العنوان: «المحقق يضع أحمد الصغير في الانفراد ويقرر جلب 25 ممن كان يتردد عليهم»!
في 6 أيلول كان عنوان الخبر: «التحقيق مع الصغير يستغرق شهراً ـ توقيف رسول الجزائري الى شركائه في دمشق»!
وفي 5 أيلول كان العنوان: «المحقق العسكري يتابع التحقيق مع احمد الصغير ـ الجزائري يؤكد انه كان يجمع المعلومات لحسابه».
في 2 أيلول جاء في العنوان: «النيابة العامة العسكرية تباشر تحقيقاتها بقضية الصغير ـ استنابات للتحقيق مع عدد كبير من المشبوهين ـ تحقيق الأمن العام يميط اللثام عن وقائع مذهلة..».
في 18 آب 1961 كان عنوان «النهار»: التحقيق مع عصابة التجسس الجديدة يتطور تطوراً خطيراً ـ اعتقال جزائري ذي صفة دبلوماسية ـ بين المقبوض عليهم فتاة مثقفة»!
أما في 10 آب 1961 فقد نشرت «النهار» الخبر الأول عن «القضية» وكان بعنوان: «أحمد الصغير يجمع المعلومات لحساب دولة أجنبية ـ مصادرة وثائق سرية خطيرة منها بيان ريتشاردز ـ مالك والأمن المتبادل ـ 1200 فيش تتضمن معلومات عن اعضاء المجلس النيابي والأحزاب»!
ولم تكن المعلومات الموزعة على الصحف الأخرى تختلف كثيرا في مضمونها وان اختلفت صياغتها، وبقيت أولية السبق بالتفاصيل لـ«النهار».
قال والده ضاحكا: هل عرفت الآن أية حرب دولية كانت تدور رحاها خارج معتقلك؟!… والحمدلله انه ما زال في لبنان، وبين قضاته خصوصاً، من يحاول التثبت من الاتهامات الموجهة بالغرض لهذا او ذاك من المواطنين في سياق حرب المخابرات بين الدول داخل دولتنا.
غرق الفتى في أفكاره: ما قيمة الصحافة، إذن، إذا هي كانت مجرد ناقل لمعلومات توزع عليها فتنشرها من دون تدقيق، برغم انها قد تقضي على مستقبل مواطنين فضلاً عن اساءتها إلى صورة العدالة، بل الدولة عموماً في لبنان؟ هل هذه هي بالفعل مهمة الصحافة؟! ثم… من هو المسؤول عن هذه الأخطاء القاتلة، وكيف يمكن وقفها؟! وهل يبرر الصراع بين الأجهزة الأمنية التشهير بالمواطنين وتدمير سمعتهم والطعن بوطنيتهم؟… ولمن يشكو أمره هو ومعه كل الآخرين الذين زج بهم في هذه «القضية» المركبة على عجل، ومن دون أدلة قاطعة؟! إذا كان القضاء فاسداً أو مفسداً وخاضعاً لأهواء السلطة وأجهزتها الأمنية فأنى يكون في البلاد عدالة؟!
قطع عليه صوت أمه استغراقه في التفكير والاستنتاجات المنطقية.. وسمعها تقول: الله هو العدل، يا ولدي. ليس لنا، نحن الناس البسطاء، الا الله. والحمدلله أنك ورفاقك قد خرجتم من هذه المحنة برؤوس مرفوعة… وها هي السلطة تكذّب ذاتها بذاتها. أنا لا أقرأ. وكان والدك يخفي عني الصحف، لكن اخوتك كانوا يقرأون لي ما نشر، في غيابه، وكان الكذب مكشوفاً.. والحمدلله ان الحقيقة قد ظهرت أخيراً. هيا، قم لتناول الإفطار.

^ قصد الفتى إلى مكتبه في مبنى دار الكفاح، في شارع مار منصور، خلف اللعازارية، يسابقه شعور بالاضطراب وعدم الارتياح: لقد خذله من كان يفترض انهم «أهله»!
استقبله زملاؤه بتظاهرة فرح، ثم جاء رياض طه يعانقه ويدعوه ومعه «التظاهرة» إلى مكتبه، وهناك سمع جانباً آخر من «الرواية الرسمية» عن أحمد الصغير ومن تعاون معه.
قال رياض طه: لقد ذكر احمد الصغير في مفكرته وتسجيلات اللقاءات أسماء حوالى الألف من رجال السياسة والادارة والأعمال والاحزاب والنقابات والصحافيين.. لكنه خصك بأن ائتمنك على أسراره، إذ أودع عندك حقائبه بكل ما فيها.. لذلك كان سهلاً عليهم ان يصوروك وكأنك «نائبه» او شريكه في تنفيذ خطة ما لم يستطيعوا اكتشاف تفاصيلها فبنوا اتهامهم على تقديراتهم وليس على معلومات مؤكدة.
نبر الفتى: ولكنك تعرفني اكثر من عائلتي، فأنا أكاد أنام في مكتبي هنا.
عاد رياض طه يقول: المسألة تتصل بالحقائب وما فيها. لقد صوروها وكأنها تحتوي أسرار القنبلة الذرية، لهذا تشددوا معك أكثر من أي معتقل آخر. وأصارحك أننا في البداية قد استهولنا الأمر، وقدرنا انك تعرف، ولو أنك لم تشارك.. ثم ان المدير العام للأمن العام قد تعهد لنا باطلاق سراحك فور انتهاء التحقيق الذي كان يتابعه محامينا محمد الساحلي، وهو صديقك ويكنّ لك تقديراً عالياً.
وهنا تدخل الساحلي فقال: كانوا يرجئون ابلاغنا بما يجري بحجة ضرورة الانتظار حتى ينتهي التحقيق.. ولقد هولوا علينا وأخطر ما في الأمر انه كثيراً ما استخدموا اسم ابراهيم كابويه باعتباره المعني، إذ انه الممثل الرسمي لثورة الجزائر وهو قد تخلى عن أحمد الصغير.
عاد رياض طه يقول: أعترف أننا وقعنا في فخ الأجهزة الأمنية، وتعرف الحساسيات بينهم وبيني.. ربما لهذا خففت من الاتصالات المباشرة وتركت لصديقك محمد الساحلي الاهتمام بالجانب القانوني وبعيدا عن السياسة والتسييس.
صمت قليلاً، ثم قام ليعانق الفتى وهو يقول: اعترف اننا قصرنا كثيراً، لكن ذلك لا يعني ان احترامنا لك ولكفاءتك قد نقص.. بل المؤكد انه قد صار اعظم نتيجة صمودك.. وانا أحييك، أمام الأسرة جميعاً، لأنك لم تضعف فحميت شرف الصحافة والصحافيين.
صفق الجميع، وانفض الجمع ما عدا الساحلي فقال رياض طه: مؤكد أنك متعب، واقتراحي ان تمضي اجازة ولو لأيام في أي مكان تختاره، هنا في لبنان او في القاهرة إذا رغبت.. ولا أنصحك بدمشق لأنها في حال من الاضطراب اعتقد أنها ستطول. إن الانفصال زلزال، والردة عند قياداته عنيفة جداً.
قال الفتى: لا يريحني إلا العودة إلى عملي، اللهم إلا إذا كان الأمن العام قد حكم بإخراجي من دارك هذه..
ورد رياض طه: انس أمر الأمن العام. لقد اعتقلت، في شبابي أكثر من مرة، وكنت اخرج من المعتقل أقوى وأكثر إيماناً بقضيتي.
صمت قليلاً، ثم تحرك نحو مكتبه وعاد بمظروف متورم، وقال بصوت خفيض يعكس ارتباكه: اسمح لي ان أقدم لك ما يعوض النفقات الإضافية التي تحملتها عائلتك…
وقاطعه الفتى بنبرة غضب: سأقبل راتبي فقط، لأنه حقي..
قال رياض طه: المال لا يعوض التقصير، ولكنني أعرف أحوالك المادية.
قال الفتى: لم نتكلف إلا ما يحفظ الكرامة، حتى في السجن.
وجد رياض طه «مخرجا» فقال: لقد حفظت كرامتنا جميعاً.. اعتبر هذا المبلغ ثمن بدلة جديدة وربطة عنق وحذاء.
تدخل محمد الساحلي فقال: هل نسيت اننا أخوة. ليس رياض طه في هذه اللحظة رب عملك، انه أخوك الكبير، وهو يدفع نصيبه من الغرم.
أسقط في يد الفتى، لكنه اقنع نفسه ان هذا المبلغ حقه بوصفه بعض واجب مؤسسته تجاهه، فتناول المظروف وعاد إلى مكتبه مبتئسا فوجد الزملاء في انتظاره، وقد انضم إليهم بعض أصدقاء مآدب «النصف صحن» من الطبخ من الرسامين والذين التجأوا إليه ذات يوم بأمل الانتساب إلى مهنة الصحافة ولو بعد حين.. وهكذا وجد الفرصة لإقامة «مأدبة عامرة» بصحون طبخ كاملة.

^ تابع الفتى عمله وقد تضاءلت حماسته. كانت وقائع أيام التوقيف تطارده، كما ان تداعيات الانفصال كانت تزيد من حزنه، لا سيما وقد أنعشت «التيار الانعزالي» في لبنان الذي تعزز الآن بتحالف غير مقدس بينه وبين بعض البعثيين السابقين والمرتدين عن إيمانهم بقضية الوحدة. وصارت إذاعة دمشق ملتقى الانعزاليين في مختلف أرجاء الوطن العربي، وجعلت من التشهير بجمال عبد الناصر (الفرعون) ومصر (التي لم تكن في أي يوم عربية) وقضية الوحدة (وقد صارت الآن استعماراً) نهجاً دائماً. وكان مما يزيده ضيقاً ان منتديات بيروت ومقاهيها وصحفها قد تحولت إلى ما يشبه حلبات المصارعة بين «العروبيين» والمنادين بالكيانات القطرية التي تجعل من كل دولة عربية، ولو بحجم مشيخة، «أمة تامة».
بالمقابل نشطت القاهرة للرد على الحملة بهجوم مضاد عنيف.. وهكذا انقسمت الصحافة إلى معسكرين متواجهين، وانزلق العديد من الكتّاب إلى التشهير بعضهم بالبعض الآخر، وتحطم عبر هذه الحرب الكثير من الشعارات والمبادئ والرموز المضيئة.
صارت بيروت ساحة حرب بين أجهزة مخابرات دولية وعربية تتبادل نشر الشائعات والنكات المسمومة، وان ظلت «السلطة» تحت قيادة فؤاد شهاب تظهر احتراما عاليا لجمال عبد الناصر، مع مراعاة الأمر الواقع السياسي الجديد في سوريا.
انقسمت أحزاب سياسية عريقة، وخرج مناضلون من أحزابهم إلى أحزانهم في قلب خيبة أمل مريرة، وتمت فبركة تنظيمات جديدة، بعضها تحت صورة عبد الناصر وانتعشت الإقليميات وإن تلاقى الإقليميون في جبهة واحدة. وتم توظيف الفن في المعركة، فجعلت إذاعة دمشق فيروز والرحابنة ومطربين لبنانيين آخرين بديلاً من «الطرب المصري»، وفرض الصمت في محطة الإذاعة والتلفزيون السوري على أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ ومحمد عبد المطلب وشمل فنانين لبنانيين وسوريين كانوا يقيمون في القاهرة ويعملون فيها مثل فايزة أحمد وصباح ونجاح سلام ومحمد سلمان الذين أدينوا بتهمة الغناء للدكتاتور جمال عبد الناصر ودولته البوليسية.
بالمقابل شهدت سوريا فترة من الاضطراب السياسي تم التعبير عنها بمحاولات انقلابية متكررة أطاحت نخبة الضباط في الجيش السوري ممن اتهموا بأنهم استمروا على ولائهم لجمال عبد الناصر وجيش الوحدة.. وجرت عمليات تسريح واسعة النطاق لهؤلاء الضباط، وقد جاء بعضهم إلى بيروت، واختار المتميزون منهم ان يتابعوا جهودهم في رصد الأنشطة العسكرية الإسرائيلية، بل ان بعضهم قد سعى لتأسيس مراكز أبحاث تهتم بكشف استراتيجيات العدو بدءاً من واشنطن وانتهاء بتل أبيب.

^ أدت هذه الحرب، في جانب منها، إلى انتعاش شهدته الصحافة في لبنان، خصوصاً وقد اتسع المجال لدخول خصوم جمال عبد الناصر جميعاً إلى الحلبة.
نشطت السعودية، ونشط معها الأردن، وحصل تلاق في المصالح مع حكم عبد الكريم قاسم في العراق ومع الانفصاليين في سوريا، تحت غطاء دولي يضم كل من عادوا جمال عبد الناصر في سياسته التحررية وعاداهم، فإذا في بيروت «جبهة مقاتلة» غنية بمواردها المادية.
قال موسى الزين شرارة قبل ان يستقر على مقعده في مكتب الفتى: هذا موسمكم انتم أهل الصحافة في لبنان.
بوغت الفتى بهذه التحية، فرد مستوضحاً: موسم من فينا؟ انه موسم الخصوم، أليس كذلك؟
قال الشاعر المميز بظرفه: قصدت ان الحوار سيشهد زخماً.. هم سيهاجموننا في كل ما نؤمن به من أفكار ومبادئ. وانتم ستكشفون عوراتهم وارتباطاتهم. لقد توحد الانعزاليون في حمى الريال، وعليكم ان تتوحدوا في حمى فقركم.. المشع!
دخل معروف سويد تسبقه ضحكته: أكيد انكما غارقان في السياسة.. اما أنا فقد عدت أمس، من قطر، وعندي لطائف وطرائف كثيرة. أولها ان طبيب العيون، وهو لبناني، قد أشار على «الشيخ العود» بضرورة ان يضع نظارة طبية لمعالجة ضعف بصره، فأوصى الشيخ على دزينتين، واستغرب الطبيب، لكنه في الزيارة الثانية اكتشف ان الشيخ فرض على رواد مجلسه جميعاً النظارة الطبية حتى لا يعيبوا عليه علته!
بعد لحظات انضم إليهم لويس الحاج الذي كان يكتب في «الأحد» باسم مستعار، وقال وهو يتخذ مجلسه: انتبهوا لقد جاءكم قائد انعزالي.
قال موسى الزين شرارة: ليت الانعزاليون مثلك.. وفي رأيي ان الكاتب او الأديب والمبدع إجمالاً لا يمكن ان يكون انعزالياً.. فالأدب يحطم الحدود ويتجاوزها، وأنت مبدع في الجد كما في السخرية، وهي فن عظيم!
عادوا إلى أساس الموضوع، انتعاش الصحافة في لبنان بسبب الصراع بين الأنظمة العربية بتوجهاتها المتعارضة.. وقال لويس الحاج:
ـ أدام الله على صحافة لبنان هذه النعمة.. ان خلافات الزعماء بركة! هذا يدفع فيدفع الثاني أكثر ويركض الثالث فيزايد على الاثنين معاً!
ضحكوا جميعاً، لكن لويس الحاج سرعان ما استدرك فقال: في أي حال نحن محك سرك، فالمستفيد هو صاحب المطبوعة وليس «العتالة» من العاملين فيها.

مــن أقــوال نســمة
قال لي «نسمة» الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
ـ لا يعوض الجسد حاجتك إلى الحب.
الجسد متعة والحب حياة، وأعظم الظلم ان يحرم الإنسان من حياته، بينما من حوله يحسدونه على سريره.

Exit mobile version