طلال سلمان

كتابة غبار رئاسي

بينما تتهاطل التصريحات والبيانات، مستبقة المشاورات، بتحديد المواقف من التمديد والتجديد وتعديل الدستور بفقرة واحدة او فقرتين من مادته التاسعة والاربعين، يتزاحم اكثر من اثني عشر الف شاب لبناني امام الثكن والمراكز العسكرية التي يجري فيها الكشف الطبي على المتقدمين الى وظيفة »دركي«،
وحتى من قبل ان تبدأ »امتحانات« المتقدمين الى وظيفة »عنصر« في جهاز امن الدولة، فان عدد الطلبات قد تجاوز السبعة آلاف،
مع افتراض ان بعض هؤلاء الشباب قد »تحوط« فقدم طلبù هنا وطلبù هناك، يظل مؤكدù ان اكثر من عشرة آلاف شاب يتزاحمون على أقل من الف وظيفة حكومية بسيطة جدù، بمرتبات محدودة جدù، ولكنها تحتاج الى وقفات ذل طويلة جدù امام اكثر من »باب عال« طلبù للشفاعة او الرحمة والرأفة، بلغة المحامي الواثق من خسارة دعواه!
في هذا الوقت بالذات يكاد اللبنانيون يختنقون بغبار المعارك المفتعلة والوهمية التي يشنها ضد مجهول اقطاب اللعبة السياسية التي تدور على نفسها، خارج اهتمام الناس وحتى فضولهم، منذ زمن بعيد،
في هذا الوقت ايضù يقدم مصرف لبنان »فدية يومية«، دعمù لليرة وحماية لسعر الصرف الحالي، فيخسر بين مائة ومائة وخمسين مليون دولار شهريù.. وهذا ليس بالامر الخطير بذاته لكن الخطر فيه انه يتواكب مع حالة ركود بل جمود بل شلل اقتصادي يعكس نفسه ضائقة خانقة على المستوى الاجتماعي، بين علاماتها تزايد الشيكات بلا رصيد عن السداد، وتفاقم ازمة السيولة، وتعذر الزواج لاستحالة العثور على مسكن لائق ببدل معقول برغم تزايد اعداد العمارات والابنية قيد الانشاء والتي تشاد غالبù بقروض مصرفية لاجل، وارتفاع معدلات البطالة الخ…
في هذا الوقت ايضù يطمئننا »الدكتور الحريري« الى ان الحكومة ليست مشلولة، وهو بهذا »يبيعنا« خبرين معù: ان في البلاد حكومة وان غيابها ليس بداعي الوفاة او الشلل، بدليل انها مدعوة للانعقاد الاربعاء المقبل!
كذلك يهدئ رئيس الحكومة من روعنا فيبلغنا ان حكومته لم تتخذ بعد موقفù من معركة الرئاسة، بتفرعاتها او تجلياتها المختلفة، وان كانت ستتخذه عما قريب..
في النشرة ذاتها، كان اركان الحكومة، لا سيما النواب منهم في ما عدا من يصنف نفسه مرشحù، يعلنون مواقف متباينة الى حد التعارض: من قائل بالتمديد، الى مروج لتعديل الفقرتين، الى مقاطع للمشاورات في انتظار تحديد موضوع التشاور!
واذاكان هذا التباين ينفي عن الوزراء تهمة الشلل فانه يؤكد بالمقابل ان لا حكومة وبالتالي لا موقف موحدù لهذا الكم من الاعيان والوجهاء متى اجتمعوا داخل مؤسسة مجلس الوزراء.
* * *
تكاد البلاد تغرق او »تفطس« في عاصفة من الغبار الكثيف التي، كما في هوليوود، تثار صناعيù ومن اجل »لقطة في الفيلم«،
فلا معارك ولا من يعاركون، لا سيما حيث يتوجب الاهتمام واحتدام المواقف والاراء، واستصدار شهادات الجدارة للحكم بمؤسساته المختلفة، من يستشير منها ومن يشير!
اما المواطنون فتعتصرهم الهموم اليومية الثقيلة، وهي اقتصادية اجتماعية اساسù، تمتد من كلفة العيش الى السكن والتعليم والطبابة والاستشفاء وفرص العمل.
ومن محاسن الصدف ان يتزامن موعد الانتخابات االرئاسية الفرنسية مع الموعد المفتعل والوهمي للمعركة المفتعلة والوهمية حول الانتخابات الرئاسية في لبنان:
هي فرصة »تاريخية« لمقارنة استثنائية ليس بين اشخاص المرشحين لقيادة البلاد هناك وهنا، فهذا متعذر وغير ضروري، ولكن بين لغة الجدل السياسي وموضوعاته هناك واللغة والموضوعات هنا.
هناك يحكم على »الشخص« من برنامجه، وعلى البرنامج من مدى شموله ومستقبليته، وعلى المستقبلية من خلال استيعابها لمشكلات الواقع وتوفير الحلول العملية لها من غير ان تتأثر »روح البلاد« ودورها والحريات وحق المواطن في مزيد من الضمانات، لمراحل حياته المختلفة من الطفولة الى الشباب، ومن العمل الى الدخل الى الزواج والسكن الى التقاعد، في الادارة الحكومية او خارجها، داخل البلاد او في ما وراء البحار!
اما هنا فالبرنامج هو الشخص،
الشخص من دون ماضيه، اذ قد يكون في الماضي ما لا يتلاءم مع »متطلبات« الحاضر، او ربما من دون حاضره، اذ قد يشكل نقضù لماضيه بما يهز مصداقية تعهداته حول المستقبل.
وفي كل الحالات فالمرشح الامثل هو الذي لا موقف له من المعضلات الاقتصادية الاجتماعية القائمة، انطلاقù من ان »موقفه السياسي« يكفي لتوضيح ما خفي من »رؤيته« ومن قدرته الخارقة على استنباط الحلول الاكيدة لاستيلاد الازدهار والرخاء والنهوض عبر الانماء المتوازن!
بل ان العديد من المرشحين يرون في الصمت المطلق ضمانة للوصول الى المنصب الفخم، فلا يقولون »لا« ولا يقولون »نعم« ويتورعون عن قول »لا ادري«، وهكذا يتركون جميع الخطوط مفتوحة للحظ الذي يجيء غالبù عبر الغموض وبفضله!
سياسيون محترفون ولا سياسة،
اقتصاديون متعددو الاهتمامات والانشطة ولا دورة اقتصادية سلمية،
جيش لجب من النواب والوزراء ولا علاج جديù لاية مشكلة،
والناس يختنقون داخل قوقعة همومهم، ويزيد من ضيقهم ما يعرفونه او يسمعونه عن ارقام الهدر التي تزيد من خطورة العجز في الموازنة، وعن ارقام القروض التي ترهن مستقبل ابنائهم من دون اية ضمانة لامكان سدادها بالانتاج،
اي معركة رئاسية تلك التي تجري خارج هموم الناس واهتماماتهم؟!
وليس السؤال فقهيù ومتصلا بصلاحيات هذا الرئيس او ذاك، ولكن موضوعه: أين تقع هموم الناس على خريطة هذه المعركة المفتعلة التي لا تحلي ولا تسلي ولا تعشي الحمار؟!

Exit mobile version