طلال سلمان

كتابات على جدران الصحافة (14) هوامش

«الأحد» تقدم مبدعين في القصة القصيرة: غادة السمان وزكريا تامر
..وسـهيل إدريـس يمسـح دمـوع مالـك حـداد لجهلـه اللغة العربية
لم يكن الفتى شديد الإعجاب بالطبقة السياسية في لبنان، وكان عقله وقلبه وبالتالي اهتماماته وقراءاته الخاصة «عربية» بالدرجة الأولى و«ثقافية» ما أمكنته المتابعة. وكان يواظب على صحافة مصر، «الأهرام»، وعدد يوم الجمعة، بالذات، الذي كان «الأستاذ» محمد حسنين هيكل يكتب فيه مقاله الأسبوعي «بصراحة» في حين تحمل الصفحات الثقافية كتابات في المسرح والأدب والشعر لكبار الكتّاب وبينهم توفيق الحكيم ونجيب محفوظ والشاعر صلاح عبد الصبور، في حين كان يتابع في «روز اليوسف» و«صباح الخير» إحسان عبد القدوس والشاعر أحمد عبد المعطي حجازي والكاتب الذي تعلم منه كثيراً أحمد بهاء الدين، فضلاً عن متابعته لرسامي الكاريكاتور المبدعين وبينهم صلاح جاهين ورجائي وبهجت عثمان وأحمد حجازي وغيرهم ممن تتلمذوا على ريشة عبد السميع.
وبرغم إعجابه ببراعات مصطفى وعلي أمين والأفكار المبتكرة التي يطرحانها فقد كان «يستريب» في مقاصدهما السياسية، ويتلمس نقصاً في ولائهما لفكرة العروبة.
من داخل هذا الاهتمام كان يحاول ـ كلما أمكنه ـ أن يلتقي بعض القادة السياسيين العرب خلال مرورهم في بيروت.
ويذكر أنه ذهب، ذات يوم، إلى فندق «كابيتول» في بناية العسيلي، في ساحة رياض الصلح، للقاء الزعيم المغربي المهدي بن بركه، الذي جاء بيروت للمشاركة في لقاء لنصرة ثورة الجزائر. وقد صحبه وشارك معه في محاورة الضيف المميز رفيق خوري، وكانت فرصة أطلا من خلالها على أحوال أقطار المغرب عموماً، خصوصاً أن بن بركه كان كريماً في وقته معهما، وتحدث عن ثورة الجزائر وأبطالها وعن ارتكابات الاستعمار الاستيطاني الفرنسي فيها، كما عن مشروع التكامل الثوري الذي كان معقد الآمال بين الأقطار الثلاثة المغرب والجزائر وتونس… مع التنويه بالدعم المفتوح الذي تقدمه مصر جمال عبد الناصر.
ولقد نال تهنئة من رياض طه على اهتماماته العربية وقال له مشجعاً: لقد كنت مثلك، في سنوات الخمسينيات، وقدمت جهدي لثورة مصر وجعلت «الأحد» جبهة مقاتلة في الحقبة الثورية التي شهدت تأميم قناة السويس وصد العدوان الثلاثي، ثم قيام دولة الوحدة… وافترضت أنني إن صرت نائباً فلسوف أخدم أفضل وأكثر، ولكن المخابرات، سواء السورية بقيادة عبد الحميد السراج، ثم المصرية، ومعها «المكتب الثاني» في لبنان اجتمعوا على محاربتي فأفشلوا محاولتي. لقد حاربوني وأنا المقاتل الممتاز من أجل العروبة: إنهم لا يحبون الأقوياء. إنهم يريدون «الزلم»، ولهذا رفعت صوتي بالاعتراض.
حاول الفتى ان يقول إن نجاحه الصحافي أهم من النيابة ويخدم قضيته أكثر، لكن رياض طه قاطعه قائلاً بلهجة رب العمل: لن أنسى أنك خذلتني كمرشح في الانتخابات، فلم تنجح في حشد التأييد لي حتى داخل عائلتك، وبالتالي في بلدتك. حسنا، اهتم أنت بالصحافة واتركني أعمل لمشروعي السياسي.
وكانت تلك أثمن نصيحة تلقاها الفتى، والتي أكدت ـ ولو من غير قصد ـ ما كان يسمعه من سليم اللوزي في «الحوادث» من ان «الصحافة لا تتحمل ضرة… وعليك إذا ما امتهنت الصحافة ألا تفكر بغيرها، وإلا فشلت فيها كما في السياسة».

^ تكررت زيارات مندوب الثورة الجزائرية احمد الصغير جابر للفتى في مكتبه في مجلة «الأحد» ضمن جولاته الدورية على الصحف والمجلات اللبنانية، حاملاً إليها آخر أخبار النضال المجيد ضد الاستعمار الفرنسي. وزيارة بعد زيارة، صار الفتى صديقا لهذا الداعية الجزائري، وذات يوم قرر الفتى ان يدعو صديقه إلى غداء في مطعم صفصوف في شارع المعرض، وكان بين أهم المطاعم في قلب بيروت. اشترط احمد الصغير ان تكون له الدعوة التالية.
هكذا وبعد أسبوعين دعا احمد الصغير الفتى إلى الغداء في مطعم فيصل وهو يقول:
ـ هناك يمكننا ان نلتقي بالعديد من الكتّاب وأساتذة الجامعة والبحاثة في جو حميم.
ذهبا فعلاً، إلى المطعم الذي اشتهر ـ عربياً ـ إلى حد ان كثيراً من رسائل الأهل إلى أبنائهم الطلاب، أو بعض الخريجين إلى زملائهم أو إلى أساتذتهم كانت تحمل العنوان «الجامعة الأميركية ـ مقابل مطعم فيصل ـ رأس بيروت».
ولاحظ الفتى ان احمد الصغير يعرف العديد من رواد المطعم، بل وله مع بعضهم علاقات حميمة بشهادة القبل التي تبادلوها معه. ثم إنه من خلال الحديث اكتشف ان شبكة معارف ممثل الثورة الجزائرية في لبنان أوسع بكثير مما كان يقدر، بل ان صداقات تربطه ببعضهم. وازداد إعجاب الفتى وهو يتأكد من نجاحات هذا الداعية الشاب الغزير المعرفة والمتنبه إلى كل ما يدور حوله، والذي يحرص على تحقيق مقولته: «عليّ ان أكسب في كل يوم صديقاً في هذا الوطن الصغير والمهم بأكثر مما يتصور أهله».
مع الأيام، تسنى للفتى ان يتأكد ان احمد الصغير جابر يعرف معظم أهل السياسة في لبنان، بينهم رؤساء للحكومة والمجلس النيابي ووزراء ونواب، ورجال اقتصاد، والعديد من المقامات الدينية من الطوائف جميعاً، وأنه يدور عليهم في زيارات متتابعة لينقل إليهم آخر أخبار ثورة بلاده وليسمع منهم ما يفيد الجهود المبذولة، سياسياً وعسكريا، في تحريرها من الاستعمار الفرنسي.
كذلك اكتشف الفتى ان صديقه الجزائري قد وجد من يسمعه ويتعاطف معه في صحيفة «لوريان» التي تصدر بالفرنسية في بيروت، وأنه يلتقي دورياً مع بعض محرريها وكتّاب المقالات فيها، تماماً كسيرته مع الكتّاب والمحررين في الصحف الأخرى.

^ تعددت الاجتهادات والمحاولات لإنعاش توزيع «الأحد» محلياً وعربياً، وكان من بينها تنظيم ندوات فكرية لمناقشة قضايا تتصل بالدستور وقانون الانتخاب، شارك فيها نخبة من أهل القانون وأصحاب الرأي أثارت نقاشاً اتصل لأسابيع، مما اضاف إلى رصيد المجلة المعنوي والمادي.
ثم عمل الفريق الصغير في «الأحد» على الاعداد لإطلاق مسابقة في القصة القصيرة، بعد التشاور مع عدد من الأدباء والكتّاب المعروفين يتقدمهم صاحب مجلة «الآداب» الدكتور سهيل ادريس.
ولقد حققت المسابقة نجاحاً فاق التوقعات وجاءت قصص من مختلف جهات الوطن العربي، وإن ظلت أكثرية المستجيبين من سوريا. وكان على لجنة الإشراف على المسابقة أن تقرأ مئات التجارب التي وجدت فيها قصصاً ممتازة. واقترح الدكتور ادريس ونفذ اقتراحه فتمت دعوة الأديب الجزائري مالك حداد كضيف شرف في حفل اعلان النتائج.
عشية انتهاء اللجنة من عملها، قال الدكتور سهيل ادريس: لدينا مشكلة.. كل المرشحين للفوز من الأدباء الشبان السوريين، وبينهم كاتبة مبدعة أتوقع لها مستقبلاً باهراً.
تداول أعضاء اللجنة الأمر ثم اتخذوا قرارهم: سنعلن اسماء الفائزين بغض النظر عن جنسياتهم. لسنا الجامعة العربية، ولسنا جهة رسمية لنراعي التوازنات. لقد ابدع الثلاثي السوري، ولا شيء يمنع من ان يحظى بالجوائز الثلاث الأولى، ويمكن ان نقدم جوائز ترضية للفائزين بالمراتب الاخرى حتى العاشرة.
وهكذا أعلنت اللجنة فوز كل من: غادة السمان وزكريا تامر باثنتين من الجوائز الثلاث الأولى في حين تنازع المركز الثالث كاتبان، وجاء الفائزون من دمشق تتقدمهم تلك الصبية ذات الابتسامة المشرقة والتي تخجل من مواجهة المهنئين وتهرب من عدسات التصوير.
كانت غادة السمان موظفة في القصر الجمهوري بدمشق، ودولة الوحدة اتخذت القاهرة عاصمة لها، وبهت دور «الإقليم الشمالي»، وصار القصر في المهاجرين مجرد إدارة رسمية، لا تنتعش الحركة فيه إلا عند زيارات «الريس»، أما في الأيام العادية فإن وجود «نائب الرئيس» فيه لا يجعله مصدر القرار.
أشاعت الجائزة ونجومها، سواء منهم اعضاء اللجنة برئيسها «أستاذ الأدباء» سهيل ادريس أو ضيوفها يتقدمهم الأديب الجزائري الذي «لا يهدر» العربية بل يكتب ويتحدث بالفرنسية مالك حداد، جواً من البهجة، فالنجاح ولادة فرح اما الفشل فهو البؤس ذاته.
ولقد اقيم احتفال في مطعم «لاغروت اوبيجون» في محلة الروشة لإعلان النتائج، كان نجمه مالك حداد.. وتحدث الدكتور ادريس عن اللجنة وعن الفائزين، ثم انعطف يتحدث عن الضيف الجزائري والروايات التي انجزها ومدى الاحترام الذي يحظى به لدى قراء الفرنسية. ثم كان لا بد من أن يقول المحتفى به كلمة، ولقد تقدم بالفعل نحو المنصة ووقف امام الميكروفون صامتاً ثم أجهش بالبكاء. قال من خلال دموعه: أشكركم شكراً عظيماً، وآسف إن كنت لا استطيع الحديث بلغة بلادي الأصلية، العربية… وسأحاول ان أطوع «لغة عدوي»، المستعمر الفرنسي، لأنقل إليكم مشاعري كعربي من الجزائر.
كانت غادة السمان نجمة الحفل، فلم تكن موجة الأديبات قد اتسعت مكتسبة «الشرعية» في المشرق العربي، وكان عدد الكاتبات أو الصحافيات محدوداً جداً، والغالبية منهن جاءت إلى المهنة كوظيفة محصورة في «الاجتماعيات» أو في الأبواب التقليدية التي تتحدث عن مشكلات الزواج والحمل وتربية الأطفال وبنسبة أقل عن الأزياء، لا سيما الطريف منها.
قال سهيل ادريس: ان هؤلاء الشباب يبشرون بمستقبل ممتاز للقصة القصيرة وللرواية، المهم ألا يضلوا طريقهم، وأن يهتموا بقراءاتهم ومتابعتهم للحركة الثقافية في العالم. إنها مصدر الثورات مستقبلاً. وغادة السمان ستكون نجمة الغد، وزكريا تامر سيكون من كتابنا البارزين.

^ عادت «الأحد» مجلة أولى وإن ظلت «الحوادث» تتصدر قائمة الأكثر مبيعا في لبنان. وكان الفتى يفتقد الخبرة اللازمة لرئيس تحرير، في حين كان رياض طه مشغولاً عن المجلة بأنشطة سياسية محورها الأساسي التحالفات في الانتخابات النيابية المقبلة، مع تركيز على الاهتمام المفاجئ من طرف «الدولة» بالعشائر في منطقة بعلبك الهرمل والذي أدى ـ بالنتيجة إلى دعم فضل الله دندش كمرشح منها للنيابة. وتعود بداية العلاقة إلى أيام كان اللواء فؤاد شهاب قائداً للجيش. ولقد رأى ان يفتح بابه امام وجهاء العشائر وأن «يعترف» بهم كجزء من الشعب لا يهتم بأمرهم أحد. وأن يوفر لهم بعض الخدمات في مناطقهم البعيدة والمحرومة من عناية الدولة…
ولقد حفظوا له الجميل فصاروا على صلة يومية بـ«المكتب الثاني»، أي جهاز المخابرات العسكرية، يراجعونه في مختلف أمورهم، ويسألونه لمن يريدهم أن يعطوا أصواتهم في الانتخابات… ولم يكن رياض طه، بطبيعته كصاحب موقف ومساهم في صنع الرأي العام، وكمناضل سياسي ممن يمكن ان تعتمده المخابرات، خصوصاً أن الآخرين ـ بمجملهم ـ عندها.
في آخر أيام 1960، حاول بعض الضباط من المنتمين إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي أن يقوموا بانقلاب عسكري. لكن آليات التنفيذ كانت تحكم عليه بالفشل، فلقد أتى الانقلابيون بمصفحاتهم من صور إلى بيروت، وكان مستحيلاً أن ينجحوا برغم ان رفاقاً لهم استطاعوا اعتقال العديد من الضباط الكبار، كما تمكنوا من محاصرة وزارة الدفاع ـ قيادة الجيش، وكانت في محلة المتحف.
وكانت تلك نقطة تحول في تاريخ لبنان السياسي إذ دخل بعدها الجيش، عبر مخابراته، الحياة السياسية ثم لم يخرج منها.
وبرغم أن رياض طه قد كتب ضد المحاولة الانقلابية، في «الكفاح» وفي «الأحد» إلا ان موقف «الشهابيين» ومركز ثقلهم في المكتب الثاني، ظل أقرب إلى منافسيه الانتخابيين في منطقة بعلبك ـ الهرمل، لأنهم أطوع قياداً ثم إن «السياسة» لا تعنيهم إلا كوسيلة للوصول إلى قرب مركز السلطة، أما رياض طه فقد كان طموحه يتجاوز النيابة والشؤون المحلية، ويرى أن من حقه ـ وبإمكانه ـ ان يلعب دوراً على المستوى العربي… ولكن أين الباب للعبور، وقد شن أقسى الهجمات على المخابرات، لبنانية وسورية ومصرية، وهي هي من يقرر السياسات؟!

^ عثر الفتى بعد جهد، على شقة صغيرة في حي يزبك في المصيطبة، والبعض يسميه حي السريان. وجاءت أخته تساعده في ترتيب سكنه الجديد، فأمضت معه بعض الوقت.
وكانت اللقاءات شبه الدورية مع احمد الصغير جابر تتوالى، يتخللها أحيانا غداء في واحد من المطاعم القريبة إلى مكاتب دار الكفاح.
وسمع الفتى أحمد الصغير يشكو من معدته، وصحبه إلى طبيب صديق فأشار عليه بحمية صارمة، لأن «القرحة» قد تنفجر، ثم نصحه بأن يأخذ إجازة من عمله، وأن يخلد إلى فترة من الراحة.
لكن أحمد الصغير كابر وظل على وتيرته في النشاط، رافضاً أن يأخذ «إجازة» توفر له جوا من الهدوء والعناية بصحته.
قال: تعرف أن الثورة قد شكلت عنوانها السياسي ممثلاً بالحكومة الجزائرية المؤقتة برئاسة فرحات عباس، وصار لها وزارة خارجية، وقد أوفدت هذه الوزارة من سوف يكون رئيس المكتب التمثيلي في بيروت، الفترة حساسة، إذاً، وعليّ أن أطوف بالأخ إبراهيم كابويه الذي انتدب ليكون هنا على القادة وأهل الرأي من مسؤولين حكوميين وسياسيين وصحافيين، وكذلك بعض الأسر من أصول جزائرية التي جاءت قبل عشرات السنين واستقرت في بيروت.
هكذا وعلى امتداد بضعة أسابيع كان على أحمد الصغير جابر أن ينظم المواعيد ثم يصحب إبراهيم كابويه إلى لقاءات تعارف ليباشر عمله «كسفير» يتبع الخارجية، في حين يستمر أحمد في عمله لكن بارتباط مباشر مع إدارة الإعلام الثوري في القيادة.
وكانت دار الكفاح بين المؤسسات الصحافية التي زارها «السفير» الجزائري الأول إبراهيم كابويه وبصحبته داعية الثورة ومركز الدعوة لها أحمد الصغير جابر.
ولاحظ الفتى أن كابويه يعامل أحمد الصغير كأنه «عسكري على بابه»، وأنه يتجاهل ملاحظاته ومحاولات تصحيح الأخطاء التي يرتكبها هذا الوافد إلى لبنان الصعب والذي يتصرف في بيروت على السجية من دون «خريطة»، فيخطئ في أسماء الأشخاص والأحزاب والجهات، ثم يرفض الملاحظات المنبهة بلطف والتي تقصد التخفيف من أخطائه… فضلاً عن فجاجة تصرفاته.

مــن أقــوال نســمة
قال لي «نسمة» الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
ـ لن أكون في ماضيك ولن تكون في مستقبلي، فلماذا لا نعطي أنفسنا للحاضر، باليوم والساعة والدقيقة والثانية..
لماذا نهدر زمناً يكفينا لدهر من السعادة؟!

Exit mobile version