طلال سلمان

كان يا ما كان

ذات يوم عاصف من ايام الحرب الاهلية السوداء، لم اجد ما اكتبه في افتتاحية “السفير” افضل من اطلاق “نداء استغاثة” موجه إلى بعض القادة العرب “المحايدين” بعنوان رئيس دولة الامارات العربية المتحدة الشيخ زايد بن سلطان..

بعد يومين جاءتني دعوة رسمية لزيارة ابو ظبي، ولقاء الشيخ زايد، الذي اشهد أن السلطة لم تفسده، بل انه وجد فيها موقعاً ممتازاً لتوزيع “الخير” على “الاخوة المحتاجين في الدول الشقيقة..”.

كان لدي من الهموم ما يشغلني عن تلبية الدعوة، فأرجأت السفر اياماً، ثم ركبت الطائرة إلى ابو ظبي، فوجدت من يستقبلني وينقلني إلى الفندق، في انتظار موعد اللقاء.

صباح اليوم التالي جاءني الصديق الذي خدم في ابو ظبي مفترضاً انه يختصر طريق العودة إلى فلسطين، فباشرني بسؤال محدد: ماذا اتيت تفعل هنا؟ قلت: جئت تلبية لدعوة من الشيخ زايد..

قال الصديق الذي عاش دهراً في الدولة التي انبتتها المصالح الدولية بعد اكتشاف حقول النفط الغنية فيها، ومكنتها من ضم اراضٍ كانت تابعة لسلطنة عمان: إنسى الامر! فما كان في الامس يذهب مع الأمس.. ومؤكد أن الشيخ زايد قد نسي مقالك وهو سبب دعوتك.. فاستمتع بلقاء اصدقائك، و”شم الهواء”!

ولما حاولت مناقشته رد بهدوء، ومع ابتسامة: اذن، سآتيك بالفتى المصري الذي يقرأ الصحف للشيخ زايد، وهو ممدد على اريكته في ديوانه..

بعد ظهر اليوم نفسه جاءني الصديق بالفتى المصري وبين يديه مجموعة من الصحف المحلية والعربية والاجنبية، بريطانية واميركية، وقال له: هيأ، اقرأ صحفك للأخ طلال على انه الشيخ..

قعد الفتى المصري على الارض، والصحف إلى جانبه، فبدأ يتناولها واحدة اثر اخرى وقد “علّم” على ما عليه أن يقرأه، أي كل ما يتصل بدولة الامارات بعنوان الشيخ زايد… وحين وصل إلى ما كتبته في “السفير” وضعها جانباً ليكمل قراءة ما تبقى، فاذا “بطويل العمر” ينهره قائلاً: هذا السلمان ينادينا.. ولازم نرد على ندائه. اكتب أن الشيخ زايد حاضر، وهو جاهز لان يقدم كل ما يمكنه تقديمه لإنهاء الازمة في لبنان..

شكر الصديق “القارئ” المصري، وودعه وعاد اليّ وهو يقول:

لو انك اتيت فور تلقيك البرقية لنلت الجائزة الكبرى.. اما الآن فيمكنني أن اقول لك: شكر الله سعيكم، والى اللقاء في مناسبة أخرى، أيها الذي ستموت فقيراً، لأنك لا تعرف اصول مخاطبة الملوك وامراء النفط!

ونادرة أخرى، مع الشيخ زايد..

ذات يوم، طلبني الشيخ زايد “لأمر ضروري”..

سافرت إلى “ابو ظبي” على وجه السرعة، وقصدت في اليوم التالي إلى “قصر الريف” حيث كان الشيخ زايد، وكان بصحبتي مراسل “السفير” في الامارات..

قال لي مدير الديوان: آسفون، ولكن وزير المالية عند طويل العمر.. وقد طال اللقاء اكثر من المقرر.. انت تعرف حكاية الموازنة وارقامها المعقدة!

جلسنا في قاعة لطيفة مزينة بلوحات جميلة عن الجمال، كبيرها والصغير، وحالات العشق بين الذكر والانثى منها..

بعد حين قيل لنا: تفضلوا فتفضلنا.. ورحب بنا “طويل العمر” وقال لمراسلنا: انا طلال السلمان.. واي شيء تبغيه اطلبه مني ولا ترجع إلى رئيسك في بيروت..

اكرمنا الشيخ زايد فأجلسني إلى جانبه مرحباً.. ثم انطلق في حديث متقطع عن الموازنة ارقامها المهولة، وانا صامت، اتابعه وهو يتعثر بالأرقام والانشاءات والمصادر ووجوه الإنفاق..

لاحظت أن الشيخ الطيب قد تعب من الارقام المهولة التي يسردها بصعوبة، مقارنا بين الدخل والمصروف منه…

في لحظة معينة، غمرني شعور بالإشفاق على هذا البدوي الطيب وقد حمله البريطانيون إلى سدة الحكم، بديلاً من شقيقه الشيخ شخبوط الذي كان يرفض استخدام المصارف او الصناديق والخزنات الحديدية، ويفضل أن يضع رزم المال تحت مقعده، وتحت فراشه..

قلت وأنا أُخرج ما في جيبي من مصاريف الرحلة: لقد قطعت قلبي بحديثك الموجع عن موازنة دولتك.. انني يا صاحب السمو، في ضيافتك.. ويعز عليّ أن تكونوا في ضائقة، ولا أهب لنجدتكم.. إن معي بضع مئات من الدولارات لمصروفي خلال رحلتي، وانني اقدمها لكم ـ بطيب خاطر ـ لعلها تساعد في توازن موازنتكم..

تطلب الامر دقيقتين، قبل أن ينتبه الشيخ زايد إلى مرامي حركتي المباغتة، فانفجر ضاحكا وهو يقول: يا شيطان! انت تلعب، وانا مهموم..

قلت: سامحني، يا طويل العمر، لكنني لم أجد وسيلة غير هذه لتغيير جو الحديث الثقيل على قلبك، أكثر مما هو ثقيل عليّ!

فالتفت الشيخ زايد إلى زميلي قائلاً: ألاحظت انه شيطان! في المرة المقبلة تعالى لوحدك!

 

 

Exit mobile version