طلال سلمان

كامل مهنا يأتي بنابليون الى الخيام

الحفل صغير، لكن الجو حميم ودافئ يكاد يكون عائلياً برغم الرطانة. الصداقة تتجاوز اختلاف اللغات أحياناً ويصلك »إرسالها« عبر وسائل إيضاح كثيرة تبدأ بملامح الوجه وما هو مشع في العينين ولا تنتهي مع إشارات اليدين التي تبدأ بطيئة مع العرب وتصل إلى ذروة الاشتباك مع الفرنسيين.
كامل مهنا وفايده في ما يشبه ثياب الزفاف عند باب القاعة، يحف بهما نتاج العمر بين مخاطرة وأخرى، مريم وأسعد ونور، ثم »العائلة« التي لو جاءت جميعاً لملأت البحر سفيناً!
… حين دخل نابليون اضطرب البروتوكول: لم يكن أحد مستعداً لمثل هذه المفاجأة السارة.
لكن السفير الفرنسي أراد للتعويض عن غياب »كوشنير«، الفرع الفرنسي لآل مهنا، فاستحضر الأمبراطور الذي ابتدع وسام جوقة الشرف ليحدد به المميزين من النبلاء بأعمالهم وليس بإرثهم العائلي لقباً أو عقاراً أو ذهباً مكنوزاً.
لا بأس من نزهة لنابليون في أفياء »الخيام« التي حرَم الاحتلال الإسرائيلي الدكتور كامل مهنا من بلوغها إلا بخياله، فحمل في وجدانه الناس والبيوت والدردارة والنكات والحكايات القديمة جميعاً وعمّمها على أصدقائه الكونيين في المنظمات الأهلية غير الحكومية، وطفق يمتحن فيها أولاده كل صباح.
وقف السفير جوانو مقابل الدكتور كامل مهنا، ووقفت السفيرة جوانو، مقابل »اللبنانية الأولى« منى الهراوي، ثم تدفق السفير يحكي لنا سيرة كامل مهنا التي كدنا ننساها لشدة التصاقها بنا، فهي منا ونحن فيها، بدءاً بالرئيس سليم الحص وانتهاءً بعلي عبود الذي يمكنه أن يحمل جريحاً بيد ويقود السيارة بيد أخرى بينما سائر أياديه تشوي اللحم وتقرع الطبلة أو تهتز بالمحرمة أو بالمسبحة على حاشية الدبكة!
ما أطول سيرتك حين يرويها الآخرون…
عبر الاستعراض التفصيلي، داخل صدورنا شيء من الزهو إذ كنا نحس أننا نكرّم جميعاً في شخص كامل مهنا، مؤسِّس »عامل«، وإن ران أيضاً شيء من الحسرة لأن التكريم جاء من البعيد قافزاً من فوق »القريب« الذي يتباهى بأنه قد حوّل البلاد الى جنة ضريبية، متناسياً أنه قد ألقى بدافعي الضرائب إلى جحيم النكران والاضطهاد.
التاريخ شاهد بعينين شبه مغمضتين على طريقة إبراهيم بيضون الذي يرى فيكتب كل شيء، ويعلّم طلابه »البدايات« وينوِّر طريقهم بالأصول، ثم يعكف على كتابة الشعر في سيارة يقودها كامل مهنا بين مدار الجدي وخط الاستواء بسرعة مليون كيلومتر في الساعة!
الرحلة طويلة، مضنية، ومحطاتها هي بعض أسماء الوجع الذي ضرب هذه الأمة وما زال يقض مضاجعها: من الأرض التي احتلت في السبعينيات إلى الأرض التي احتلت في الأربعينيات وبالعكس. من الفقراء الذين اقتُلعوا من أرضهم إلى الفقراء الذين اقتُلعت أرضهم منهم. من مرضى الروح الى مرضى الجسد وبالعكس، من الجرح إلى الجرح: من الخيام البلدة إلى الوطن الذي صار أشتاتاً من الخيام مبعثرة بين المشرق والمغرب لإيواء المشردين بقرار والمهزومين بالأمر والمجرَّح بعضهم بخناجر بعض بينما »العدو« يطارد أحلامهم حتى في المنافي.
الرحلة طويلة بين الجرح والجرح، بين الأرض المحتلة والمحتلة أرضه، بين المحروم في وطنه والمحروم من وطنه، فكيف إذا ما تكاتف الحرمان فسدَّ الطريق إلى الغد.
أمس، تعرّفنا من جديد إلى السجل الثقيل لهذا الرجل الخطير، كامل مهنا، لقد فضحه السفير الفرنسي في بيروت، فكشف بعض أسرار تلاعبه بالموت، وانتصاره عليه في النبعة وتل الزعتر وبرج حمود وحارة حريك وبرج البراجنة ومختلف أنحاء جبل عامل وبعض أنحاء »بلاد« بعلبك وفي قلب بيروت.
لكأنما جعل هذا الطبيب من إلحاق الهزيمة باليأس حرفته، فسارع الى البائسين يمنحهم الأمل فيشفون، ويأخذون قبساً من ابتساماته التي تبدو أحياناً غير مفهومة، ولكنها تنتقل بالعدوى إلى وجوه الآخرين.
شكراً لنابليون ولورثته في فرنسا الذين لا يبخلون بالتكريم على المميزين من غير رعاياهم، بينما نحن أكثر ما نكون بخلاً على رعايانا، ولا سيما على المميزين أو المتفوقين منهم، في غير مجالات الاستثمار وما إليه!
ونرجو أن تمكِّننا الأيام من رد الجميل إلى نابليون، الذي كان في عيوننا مستعمِراً ومحتلاً، وعلينا الآن أن نحفظ له وجهاً آخر له ملامح الإنسان.
ط. س

Exit mobile version