طلال سلمان

كاسترو بعد بابا في دمشق تاريخ

للمرة الثانية خلال عشرة أيام تفتح مدينة التاريخ بامتياز، دمشق، أبوابها (وقلبها) لأحد الرجالات الذين أسهموا في كتابة بعض فصول التاريخ المعاصر: فبعد البابا يوحنا بولس الثاني يجيء قائد الثورة (الدائمة) في كوبا فيديل كاسترو.
وإذا كانت لكل من الرجلين، وبالتالي لكل من الزيارتين، قيمة استثنائية، فإن قدومهما المتزامن، مصادفة، إلى العاصمة السورية يضفي على دمشق كعاصمة عربية ذات دور أساسي في منطقتها، أهمية إضافية ويمنحها وهجاً فريداً، إذ هي تمكنت مما لم تستطعه أية عاصمة أخرى قبلها، ومن الصعب تخيل تكرار هذه السابقة في أي بلد آخر.
الأول بين المسيحيين والأخير بين الشيوعيين (مع استثناء الصين وكوريا الشمالية، ولكل منهما تجربته الخاصة والمميزة) في عاصمة بلاد الشام، مهد المسيحية، والدولة التي أخذت من الاشتراكية ما رأته محققا للطموح إلى تحقيق قدر مقبول من العدالة اجتماعيا وحد أقصى من الاستقلال في القرار سياسيا.
وكل من الزيارتين يشكل اختراقا بمعنى ما.
وإذا كان البابا قد سجل سابقة فريدة بدخوله إلى مسجد، وفي عاصمة الأمويين، واعترافا بسبق الكنيسة الشرقية التي يكاد العرب يشكلون طليعة حماتها وحفظتها، فإن استقبال كاسترو يشكل حدثا مميزا يؤكد حرية الإرادة بقدر ما يشهد لقيمة الصمود السياسي في عالم يكاد يخضع بمجمله لإرادة القطب الأوحد الذي يشكل »فيديل« استثناءً فريداً في التصدي له والنجاح في مقاومته على امتداد اثنين وأربعين عاماً وبضعة شهور.
والحقيقة ان المواطنين العرب، عموماً، لم يحبوا قائداً سياسيا أجنبيا كما أحبوا فيديل كاسترو. ربما نافسه صديقه ورفيق سلاحه تشي غيفارا، خصوصا بعدما حرر نفسه من المناصب الرسمية وأطعم الثورة عمره حتى جاءت الخاتمة الأسطورية تؤكد حقيقته الباهرة فإذا هو المثل الأعلى والقدوة لجيلين أو ثلاثة أجيال من الشعوب المقهورة الطامحة لتحقيق ذاتها بالكفاح المسلح ضد طغيان الحكم في الداخل وهيمنة التحكم الاستعماري الخارجي والأميركي تحديدا بمصائر الأوطان.
ولقد كانت دمشق دائما »العاصمة العربية«، لكنها عبر رحابتها التي اتسعت لهذين الزائرين المتناقضين في توجهاتهما الى حد الخصومة الفكرية والمواجهة السياسية، قد أكدت جدارتها بدورها القومي البارز، وبقدرتها على أن تكون الناطق باسم »القضية« العربية التي عنوانها فلسطين والتي يشكل الصراع العربي الاسرائيلي متنها والسياق، وخصوصا أن انتفاضة الأقصى تتقوى بها وتتوسم فيها الرعاية والأهلية لاحتضانها.
وعلى اختلاف الظروف والمواقع فإن ثمة كثيرا من المشترك بين القيادة السورية وبين »فيديل« الذي لا يناديه شعبه إلا باسمه مجرداً… وثمة ما يفيده كل من الضيف والمضيف من تجربة الآخر.
ومع أن كاسترو، القارئ النهم، قد التهم رائعة سرفنتس »دون كيشوت« وأعاد قراءتها خمس مرات، فإنه لا يقاتل طواحين الهواء، بل هو قاتل فانتصر في بعض أشرس المواجهات مع أعتى القوى الامبريالية، الولايات المتحدة الأميركية، وهو على بعد ذراع منها، وبدلا من صراع عبثي ضد عدو متوهم فإنه ترك أقوى دولة في العالم عالقة في »خليج الخنازير«، تحمل دمغة الفشل المدوي في قهر إرادة واحد من أصغر الشعوب عددا وفوق جزيرة من أصغر الدول مساحة في العالم.
زيارة للماضي، من أجل ألا ننسى المكان والمكانة وأهمية التاريخ.
وزيارة للحاضر، من أجل أن نحمي بالإرادة الحاضر ونفتح طريق المستقبل.
والرموز هي معنوية، لكن النتائج تتقاطع وكلها سياسية.

Exit mobile version