طلال سلمان

كارثة طائرة بمن حملت وجدول اعمال طبقة سياسية

أخذت أحزان الفقد اللبنانيين الملتاعين على أبنائهم وإخوتهم والأزواج والأطفال الذين أودت بهم كارثة الطائرة الأثيوبية أمام شواطئ بيروت، بعيداً عن فنون الدجل، مزايدة ومناقصة، التي لما تتوقف الطبقة السياسية الحاكمة عن ممارستها في مختلف الشؤون الحيوية المتصلة بحاضرهم ومستقبلهم وحقوقهم في وطنهم.
لقد كشفت الفاجعة، مرة أخرى، الانفصال الكامل بين هموم «الرعية» وبين اهتمامات الطبقة السياسية… خصوصاً أن الذين أودت بهم كارثة الطائرة لم يكونوا على متنها في رحلة سياحية (للصيد، أو للقنص، مثلاً!) وإنما كانوا في طريقهم إلى حيث يطلبون الرزق مجبولاً بعرق الجباه واقتحام الغابات ومؤاخاة الأفارقة الذين نهب الاستعمار الغربي ثرواتهم وترك بلادهم ملغمة الحدود بالخلافات العرقية والقبلية والدينية… قبل أن تقتحمها إسرائيل بمخابراتها و«مساعداتها» وزهوها بالانتصار على العرب مجتمعين، فتطاردهم فيها ويواجهونها بتآخيهم مع أبنائها وتوحدهم في السراء والضراء.
كذلك كشفت الفاجعة أن سيل عواطف اللحظة التي أبداها أركان الطبقة السياسية وتبدوا خلالها وكأن المصيبة قد وحدتهم، لم يطمس الخلاف القديم الجديد والمتجدد حول مَن مِن المغتربين هو اللبناني ـ باب أول، ومن منهم اللبناني ـ درجة ثانية، ومن هو اللبناني ـ قيد الدرس، قبل أن تقرّر هذه الطبقة من يعطى شرف «انتخابها»، باعتبار أن أركانها جميعاً في لائحة واحدة، يتفقون على الاختلاف ولا يختلفون ـ في النتيجة ـ على الاتفاق، حتى حين يصنفونه «توافقاً» أو تسليماً بضرورات «الوحدة الوطنية»، حرصاً على النظام، وهم جميعاً من أركانه ومن المنتفعين بدوامه ولو على حساب «الشعب» الذي لم يعترفوا يوماً بوحدته، لأنه إن هو توحد ذهبوا ولم يعودوا!
بالمقابل لم توقف الفاجعة حوار الطرشان حول إلغاء الطائفية السياسية، كيف ومتى، برغم أن عبثيته باتت مكشوفة، خصوصاً أن الطوائفيين من أركان الطبقة السياسية قد انقسموا بين مَن يريد إعدامها فوراً وفي الساحات العامة، وبين مَن يريد التحايل عليها بالسم البطيء، بذريعة تحضير «الشعب» لمثل هذا التطور الدراماتيكي الذي قد يأخذه ـ مرة جديدة ـ إلى الحرب الأهلية.
بعد هذا ومعه شجر خلاف عنيف آخر بين أركان الطبقة السياسية حول سن الاقتراع… ولم يكن السبب الطعن في أهلية الشباب الجديد ممّن بلغ الثامنة عشرة من عمره للاختيار، وإنما ما يمكن أن يحدثه استقبال هذا الطوفان من الفتية (حوالى ربع المليون) من خلل في التوازنات الطوائفية القائمة، والتي كان بين موجباتها العودة بالناخبين إلى قانون الستين (على طريقة التقدم إلى الخلف ـ من 2010 إلى 1960) وبالقائمة المقفلة بالفتوى!
فأما الانتخابات البلدية فحدّث عنها ولا حرج: لا أحد يجرؤ على المجاهرة بطلب إرجائها، مع أن أهل الطبقة السياسية بمجموعهم لا يريدونها الآن. البعض تذرع بموسم الاصطياف، والبعض الآخر احتج بسن الاقتراع، وبعض ثالث وجد الذريعة في المغتربين… هذا قبل أن يشجر الخلاف من حول «وحدة» البلديات الكبرى، ولا سيما بيروت، التي وجدت من يطالب بتقسيمها «حتى لا يقع غبن» في حقوق بعض الطوائف. والحمد لله أن مطلب التقسيم لم يشترط مراعاة عدد الطوائف والمذاهب في العاصمة الأميرة، وإلا باتت كل عمارة دائرة انتخابية لها بلديتها الممتازة وعلمها وشرطتها ونشيدها الوطني الخالد!
[ [ [
لنعد إلى لغة العقل، ولو مؤقتاً وقليلاً:
كيف لا تستعر نار الطائفية في لبنان فتضرب وحدة أهله وتمزق وحدة طموحاتهم بينما المنطقة جميعاً تعيش انقلاباً على تاريخها وجغرافيتها ومصالحها المشتركة ووحدة مصيرها، بعد تزوير هوية صراعها مع الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين، والاحتلال الأميركي للعراق، وتمدده إلى أقطار الجزيرة والخليج حيث ستنصب واشنطن صواريخها وستنشر مدمراتها وحاملات طائراتها لحمايتها من مخاطر «الغزو الإيراني»..
وكيف لا تنتشر نار الفتنة وثمة من ينفخ فيها على مدار الساعة، فيصل الأمر ببعض كبار المسؤولين من أهل النفط العرب إلى المجاهرة «بتحالفهم» مع إسرائيل، وباستقبال مسؤولين كبار منها ورفع علمها ولو بالادّعاء أنهم جاءوا للمشاركة في مؤتمر دولي ترعاه الأمم المتحدة… والتبرير حاضر دائماً: نحن دول صغيرة ولا بد لنا من حماية، وإسرائيل تشكل مصدر حماية لنا من خطر الاجتياح الإيراني.
كيف لا تنتشر نار الفتنة في لبنان بينما العراق تحت الاحتلال الأميركي يتم تمزيقه جهاراً نهاراً، بتبريرات طائفية ومذهبية، مع الاستشهاد بالنموذج الناجح للتعايش الطوائفي في لبنان… بينما اللبنانيون المحترقون في أتون هذا التعايش يحاولون الخروج منه إلى فضاء المواطنة فيستحيل عليهم ذلك، حتى لا يسقط النظام الفريد، وهو مصدر أمجاد طبقته السياسية، ذات المنافع الممتازة في الحكم وخارجه؟!
إنها سياسة تفتيت المجتمعات العربية، إلى مكوناتها الأولية، عناصر وأجناساً وقوميات، فإن تعذر ذلك فالطوائف والمذاهب حاضرة، بحيث تنتفي أسباب وحدة أي شعب، وبالاستطراد تنسف مقومات أي دولة بين المحيط والخليج: حيث لا يفيد العِرق يفيد الدين (كما محاولات إثارة الفتنة في مصر).. وحيث الأكثرية من أتباع دين واحد يجري التقسيم على قاعدة مذهبية (العراق منذ سقوطه تحت الاحتلال الأميركي واليمن، مؤخراً وبعد تفجّر الغضب الشعبي على نظامه… واندفاع الغرب جميعاً ومعهم عرب النفط إلى حماية النظام فيه على حساب وحدة شعبه)..
وحدها إسرائيل تبقى النموذج الفذ لأنها ترتكز، عقائدياً ومن ثم سياسياً وبحماية دولية مطلقة بوصفها «دولة يهود العالم».
[ [ [
… ولقد كانت مؤثرة تلك التظاهرة التي جمعت «الطبقة السياسية» عموماً من حول أهالي ضحايا كارثة الطائرة الأثيوبية.
لكن تلك اللحظة العاطفية لم تغيّر حرفاً في جدول أعمال هذه الطبقة السياسية، بل إنها سرعان ما استأنفت محاورات الفتنة من دون أي تغيير، اللهم إلا في مقدمة التعزية، ليغدو الخطاب أشد تأثيراً وأعظم وقعاً على المفجوعين في أسرهم كما في وطنهم الذي يضيق بهم.

Exit mobile version