طلال سلمان

قمة مطاردة مطرودة

لا …
لا يمكن قبول هذا الموقف المثير للشبهات الذي اتخذه الحاكم التونسي فتصرف بالقمة العربية، وكأنها إدارة من إدارات سلطته، ينشئها بقرار شخصي ويلغيها بقرار مضاد.
لا يمكن قبول هذه الاستهانة بالعرب عموماً، كبشر ولا نقول كمواطنين، (فما زال عليهم انتظار مشروع الإصلاح الأميركي ليبلغوا مثل هذه المرتبة السامية!)، فضلاً عن الاستهانة بأقرانه وشركائه في مؤسسة القمة العربية، بإلغاء استضافة اجتماعهم المقرر، في اللحظة الأخيرة وبينما هم يهمّون بالطيران إليه.
هذا مع التأكيد على أن العرب كبشر! لم يكونوا يفترضون أن القمة ستنجز أكثر من الالتزام بدوريتها، أي بالانعقاد في موعدها السنوي المقرر… بل ولعلهم كانوا يتخوفون من أن تتورط فتورطهم في التعهّد بتلبية ما لا يطاق من التنازلات لا للسيد الأميركي وحده، فذلك أمر لا جدال فيه، وإنما للعدو الإسرائيلي الذي بات يملك »حق النقض« الفيتو على أي قرار قد يتخذه عرب القمة، فيرفض ما لا يناسبه ويفرض ما »يشرعن« مشاريع توسعه وهيمنته على المصير العربي.
لا …
لا يُقبل من الحاكم التونسي أن يفض القمة من قبل أن تنعقد، بذريعة أنه يقدّر أنها لن تستجيب للمطالب التي عاد بها من واشنطن، حيث بات القرار في الشؤون العربية إسرائيلياً في مضمونه، إذ تكاملت المصالح والعواطف والأغراض بحيث بات صعباً معرفة الحدود الفاصلة بين هذه وتلك…
ولو أن الحبيب بورقيبة هو الذي ما زال يحكم تونس لما كان تصرف بهذا السلوك المريب: لكان جهر برفضه وبرّره، بلا خجل، ولكان واجه الجميع بموقفه حتى وهم يرشقونه بالبيض (كما حصل في بيروت قبل أربعين عاماً أو يزيد).
لا …
لا يمكن اعتبار هذا التصرف الأخرق بأنه حرص على الإجماع العربي، أملاه التخوف من أن تنهار القمة المعقودة في ضيافته فيحمّله التاريخ (!!) مسؤولية فشلها…
وهو تصرف أخرق بدليل أن الحاكم التونسي قد امتنع عن لقاء وزراء الخارجية العرب المحتشدين في عاصمته، ومعهم الأمين العام لجامعة الدول العربية، ليشرح لهم أقله! مبررات قراره. أما ذريعة أنه مصاب بزكام حاد فليست أكثر من عذر أقبح من ذنب.
* * *
لا …
لم يكن أحد يتوقع من القمة إنجازاً مذهلاً. فالعاجزون بالمفرّق لن يتحولوا إلى جبابرة متى اجتمعوا، والذين امتنعوا عن الاعتراف بشعوبهم حتى جاءهم الأمر الأميركي بالإصلاح، فبادروا إلى المناداة به وباشروا عقد المؤتمرات، وأطلقوا المناقشات من حوله في دائرة مقفلة بخوفهم، ما كانوا ليخرجوا »بقرارات تاريخية« من قمتهم التي أجهضت، لا في ما يخص فلسطين المذبوح شعبها على مدار الساعة، ولا في ما يخص العراق الذي يأخذه الاحتلال إلى »المجهول« الذي قد يصير »معلوماً« بفتنة تنتهي بتقسيمه، أو تمتد بنارها إلى الأرض العربية من حولها، والعياذ بالله.
لا …
لم يكن أحد يتوقع من القمة الكثير من الخير، ولكن البعض كان يفترض أنها قد تقنن أو تحجم الخسائر، فلا تعطي السفاح شارون صك براءة من دم فلسطين بينما العدالة الإسرائيلية تطارده بتهمة الفساد، ولا تعطي الاحتلال الأميركي الشهادة بأنه إنما تكبّد المشاق وجاء من البعيد مدفوعاً بنبل مشاعره الإنسانية لكي ينقذ شعب العراق من الطغيان ويأخذه إلى الديموقراطية بدبابة تسير بسرعة الأف 16.
لا …
لم تكن »الخلافات حول النص« هي السبب في نسف القمة، فليس بين المشاركين في القمة من كان سيأخذها إلى تحرير فلسطين، أو إلى مواجهة الإدارة الأميركية طلباً لتحرير العراق…
كذلك فلم يكن بينهم من يريد المزايدة على مضيفهم التونسي في التعهد باحترام حقوق الإنسان وإطلاق الحريات العامة، كالسماح لا سمح الله بحق الرأي والتعبير وإنشاء الأحزاب والجمعيات وإصدار الصحف إلخ…
… وها ان الوفد الأردني كاد ينجح في تمرير مسوّدة قرار بإدانة العمليات الاستشهادية التي قد تصيب بشظاياها »المدنيين« الإسرائيليين.
ثم إن الوفود العربية قد نزلت عند رغبة المضيف التونسي فأضافت مقاطع مما اقترحه حول آخر المطالب الأميركية المتصلة بمشروع الشرق الأوسط الذي تمّ توسيعه حتى يصير فيه العرب أقلية بقدرتهم على التأثير، في حين تصير إسرائيل بالمقابل أكثرية مطلقة، بقدراتها النووية والاقتصادية والسياسية.
… وهي مطالب أطلقها الرئيس الأميركي جورج بوش علناً في وجه الحاكم التونسي خلال زيارته الأخيرة لواشنطن، من دون أية مراعاة لأصول الضيافة وأولها عدم إحراج الضيف بتأنيبه أمام كاميرات التلفزيون بفضائياته العديدة.
* * *
لا …
لا يمكن قبول هذا التحول اللافت في المواقف بغير تفسير مقنع:
فقبل خمس وعشرين سنة ارتكب أنور السادات الصلح المنفرد مع إسرائيل، ووقع مع مناحيم بيغن، برعاية أميركية، معاهدة كامب ديفيد الشهيرة.
وكانت العقوبة أن انعقدت قمة عربية في بغداد واتخذت قراراً شهيراً »بطرد« مصر من جامعة الدول العربية، ونقل مقر الجامعة إلى تونس…
الآن، وبينما إسرائيل تحتفل بالذكرى الخامسة والعشرين لتلك المعاهدة التي اصطنعت للعرب تاريخاً غير الذي كانوا يأملون بتحقيقه، يمنع الحاكم التونسي قمة عربية من الانعقاد في ضيافته، و»يطرد« الجامعة العربية التي تعد لها، من تونس، فلا تجد ملجأ لها غير القاهرة… ويتقدم حاكم مصر، الذي ورث كامب ديفيد، ليعلن استعداده لاستضافة القمة المشردة التي خاف منها العديد من »أركانها«، فقرروا الغياب عنها، وخاف المضيف منها أكثر فأقفل بابه في وجهها، وتركها على قارعة الطريق.
* * *
لا …
ليس هذا الواقع السياسي العربي مؤهلاً إلا للتسبب بمزيد من الكوارث العربية.
ولو أن حاكم تونس يتهيّب المحاسبة لما تجرأ على اتخاذ قراره المتعنت الذي لم يتعب حتى في تبريره… ولكنه يستقوي بأنه يتمتع بحماية تمنع عنه المحاسبة.
ثم، من يجرؤ على محاسبته؟!
إن الاعتراضات على تصرفه الذي يمس أقرانه وزملاءه في مقاماتهم قد توقفت عند الشكل: أصول الضيافة، اللياقة، عدم شرح القرار بما يقنع الآخرين بصوابه.
لقد قتلت الغارة الإسرائيلية التي مزقت جسد المجاهد الشيخ أحمد ياسين هذه القمة التي لا هي تستطيع الرد ولا هي تستطيع أن تدفن جثمان شيخ فلسطين ومعه قضيته.
أما المواطن العربي الذي لم يكن ينتظر من القمة إلا مزيداً من التنازلات فلعله قد ارتاح إلى أن التواطؤ على حاضره ومستقبله لا يحظى »بالإجماع«.. أقله حتى الساعة!

Exit mobile version