طلال سلمان

قمة ما بعد»العملية سلمية«

يصل العرب الى قمة القاهرة، بعد أيام، وكلهم آتٍ من البعيد البعيد،
ولسوف تكون مشاهد اللقاءات الاولى في ما بين العديد منهم مثيرة ومحزنة وطريفة، وقد يحتاج واحدهم الى بعض الوقت حتى يجد لسانه، ومن ثم الكلمات المناسبة لاعادة وصل ما انقطع، أو ربما للتحقق من ان ذلك ممكن أم لا، مع أقرانه الألداء.
بعضهم يجيء من خلف خنادق كان قد حفرها لجاره، أو خوفù من جاره الشقيق،
وبعضهم سيضطر لان يبدل في الطائرة زيه »الحربي« الذي كان يرتديه معلنù به انتقاله من هذه الضفة الى تلك المعقودة اللواء لابطال السلام الاسرائيلي.
وبعضهم الثالث يأتي لعل الدخول في الجماعة يحمل اليه بعضù من السكينة المفتقدة ويهدئ من روعه ويوفر له بديلا من الضمانة الضائعة التي كانت تطمئنه الى استمراره فوق عرشه ذي المسندين (الاميركي والاسرائيلي)..
في القاهرة ذاتها، وقبل ست سنوات الا قليلا، كان آخر لقاءاتهم الجماعية.
يومها كانت »قمة الانقسام«، بعدما وصل التعارض بين سياساتهم (وأمزجة حكامهم) الى حد اجتياح دولة دولة أخرى، بقوة السلاح.
وها هم اليوم يتلاقون على قاعدة تفضح هشاشة اوضاعهم التي كان يكفي لزلزلتها أن تنتقل نسبة ضئيلة من »الناخبين الاسرائيليين« من هذا المعسكر الى ذاك، ولاسباب تتصل أساسù بالأمن الاسرائيلي، فتسقط أوهام العديد منهم وليصاب بعضهم بسويداء الخيبة والقلق على المستقبل.
وقد يكون من مزايا هذه القمة ومن عوامل نجاحها، اذا أحسن استثمارها، أن معظم الحكام العرب يصل اليها مثخنù بجراح تجربته، لا سيما اولئك الذين بالغوا في رهانهم على »الشخص« سواء أكان في البيت الابيض بواشنطن أم في مقر رئاسة الحكومة الاسرائيلية بتل ابيب.
لا يستطيع أحد من هؤلاء، بدءù بالملك المغربي، وانتهاء بشيوخ بعض الخليج، ان يدعي نجاحù لا يمكنه الآن التدليل عليه، أو الاعتصام به مباهيù… ولو كان ثمة مطمئنون الى نجاحاتهم لما كان للقمة مكان.
وحده الملك حسين يمضي في رهانه، مقررù انه شريك لاسرائيل وليس لهذا الحاكم فيها او ذاك، وهذا يستنفد الكثير من جهده ويجعله في مواجهة الجميع، مع انه معرض وأكثر من غيره لان يفقد رصيده كله، ودفعة واحدة، في هذه المقامرة التي يديرها غيره وبحسابات قد لا تراعي ضمانات العرش الهاشمي.
الأكثر قلقù الآن، من بين الحكام العرب، هو الذي كان الاكثر تورطù في السنوات القليلة الماضية، والذي أهدر مزيدù من الحبر على اتفاقات يبدو جليù الآن انها في مهب الريح: فالأولي منها صار نهائيù، والمرجأ أُسقط عمدù، والمعلق في انتظار المفاوضات النهائية لم يعد له ولمفاوضاته أساس موضوعي.
لعل القلق ينفع في تجميع »ضحاياه« على قاعدة الحد الادنى.
»فالعملية السلمية« تلقت ضربة صرعت أطرافها جميعù:
} صرعت، بداية، راعيها الاميركي الذي اندفع بتهور وخفة لا يليقان بدولة عظمى، في تسويق مشروع يرتبط بشخص يمكن ان يحسم نفوذه بالغة ما بلغت عناصر الصراع المحتدم داخل »مجتمعه« حول مفهومي »السلام« و»الامن« ومستقبل العلاقة بالبحر العربي، كبديل للحرب المفتوحة منذ مئة عام والمرشحة لان تبقى مفتوحة أبدù…
وصرعت، من ثم، »البطل الاسرائيلي« للرهان أو معقد الرجاء الاميركي، اذا ما صدقنا الادعاءات الاسرائيلية، التي سوقها الاميركيون وباعوها من اصدقائهم العرب، كتعهدات (ملتبسة وغامضة) يلتزم بها الثنائي اسحق رابين وشمعون بيريز، والتي اندفع بيريز معززù بجثة »شهيد السلام« بعد اغتيال قائده رابين يفتح باسمها العواصم العربية وينشئ فيها »مكاتب العلاقات« تمهيدù لقيام الشرق الاوسط الجديد، في ظل السلام الاميركي الوطيد الاركان.
} وصرعت، من باب اولى، ضحايا الضحايا السابقين، اميركيù واسرائيليù، من الحكام العرب الذين ذهبوا مطمئنين الى الضمانات الاميركية، الى نهاية الطريق، ليجدوا انفسهم الآن امام جدار »التطرف« الاسرائيلي ولا مجال للمكابرة، بل لعل هذه النهاية تفتح أمامهم داخليù باب المساءلة ومن ثم الحساب.
ان كثيرù من الحكام العرب يأتون الى قمة القاهرة مسلَِّّمين بضرورتها لانها توفر لهم حماية معنوية ترجئ، على الاقل، ذلك الحساب، او قد تنفعهم في تبرير الاندفاع بانه كان مشروطù »فان نكلوا نكلنا والبادئ أظلم«..
ان واحدهم مضطر للعودة الى التسليم بان العرب الآخرين، ومهما كانت خلافاته معهم، أحرص عليه من الاسرائيلي (ولو من باب الحرص على الذات، فسقوط الواحد قد يجر الآخر…)
ومجموعهم مضطر لان يذكِّر »الصديق الاميركي الكبير« بأنه قد أرسلهم على طريق التهلكة، حين أغواهم فأغراهم بتسليم أوراقهم كافة للمؤتمن والمحصن بالدعم الاميركي المطلق شمعون بيريز،
… وهؤلاء يحمِّلون ذلك الصديق الكبير مسؤولية تعريضهم لخطر السقوط، أمام هجمة »الأصولية الاسلامية« أو »التطرف الاسلامي« المدموغ »بالارهاب« والذي يجد في انتصار التطرف الاسرائيلي مبررù اضافيù لمحاسبة الحاكم العربي المفرِّط في الخارج والمفرط في قمعه في الداخل لحماية خياره »الأميركي«.
ومنطق هؤلاء مختلف تمامù عن منطق الملك حسين الذي ذهب يلوم الصديق الأميركي الكبير على بروده وتحفظه ازاء نتنياهو المنتصر، ويدعوه الى احتضانه، ويحرضه على العرب الرافضين أو الممانعين أو الخائفين من هذا الخيار الاسرائيلي.
ان هؤلاء لا يريدون ان تكون قمتهم في القاهرة امتدادù لقمة شرم الشيخ، كما طلب الملك حسين بلسان الرئيس الأميركي بيل كلينتون،
لقد ذهبوا الى كلينتون وبيريز وأوهام الشرق الاوسط الجديد في شرم الشيخ، أما وقد سقطت الأوهام فلن يستمروا في الطريق المسدود.
من هنا انهم يجيئون الى القاهرة ليفتحوا أمامهم وأمام الصديق الاميركي الكبير طريقù جديدة أو أقله مخرجù للنجاة من دائرة السلام الموهوم التي انفرطت بخسارة رجلها رجلهم رجل واشنطن شمعون بيريز.
وقمة القاهرة مدينة بانعقادها لسقوط رئيس اسرائيلي،
أما نتائجها فمرهونة بمدى تخلص الخائفين من السقوط من خوفهم والالتفات الى ما يبقى بعد الأشخاص.

Exit mobile version