طلال سلمان

قمة فلسطين في بيروت

من الصعوبة بمكان، بداية، ان تعقد قمة عربية، فكيف بأن تنتهي بغير خلافات حادة تذهب بالفائدة من انعقادها، فيصير مجرد التئامها هو المطلب الأعز، أي عدم انفجارها أو تفجيرها بما يؤذي »التضامن العربي« ويصور الأمة الواحدة شراذم من الأخوة الأعداء المتخاصمين على البديهيات والذين قد يؤذي واحدهم نفسه ليسبب أذى أكثر إيلاما لأشقائه وشركاء المصير،
ولقد أحاطت بقمة بيروت مناخات محبطة استولدتها الخلافات العربية المعلنة والمتجددة سواء حول الصراع العربي الإسرائيلي في طوره الراهن، حيث بات بعضهم يرى ضرورة الخروج منه بأي ثمن، ولو على حساب أصحاب القضية والكرامة القومية والعزة الوطنية، أو حول الخلاف الكويتي العراٍقي، أو حول تمكين الجامعة العربية من أن تصير مؤسسة فاعلة في توكيد تضامنهم حول أهدافهم ومصالحهم المشتركة.
ومع اقتراب موعد القمة في بيروت كان طوق الحصار الأميركي الإسرائيلي قد ضُرب عليها ليفرض على المشاركين فيها أن يسيروا بخطى أضعفهم، وأن يقروا من التنازلات لا سيما في قضية فلسطين ما لم يكونوا ليجرأوا على إقراره من قبل، متذرعين الآن بأحداث 11 أيلول، وضرورة تبرئة الذات من تهمة الإرهاب.
كان ثمة منطق »عربي« قد راج وتم تعميمه بين الخائفين مفاده ان إسرائيل شارون قد نجحت في تصوير نفسها ضحية للإرهاب العربي (الفلسطيني) هنا تماما مثل الولايات المتحدة التي دمر الإرهاب العربي (السعودي الخليجي المصري اليمني الخ) فيها بعض رموزها وأوقع فيها مذبحة لا يقرها ضمير أو عقل… وبالتالي فلا بد من أن يبرئ العرب أنفسهم تجاه الأميركيين بالتنازل عن بعض فلسطين (وسائر أرضهم المحتلة) لأرييل شارون.
ولقد حاول هذا المنطق ان يبتدع النص الذي يلائم تفسيره هذا »للأفكار« التي طرحها ولي العهد السعودي الأمير عبد الله بن عبد العزيز، فكاد أن يصورها تنازلا عن آخر الثوابت القومية لكي يرضى شارون فيعفو جورج بوش… وكاد أن يتخذها ذريعة لتبرير »توسله« الرضى الأميركي: فطالما أن مملكة الحرمين الشريفين قد أسقطت الحرم عن إسرائىل فلماذا المزايدة على »دار الإسلام« ومسقط رأس العرب جميعا؟!
ولقد يفاجأ هؤلاء اليوم بقرارات لقمة بيروت لم يكونوا ليتوقعوها، لأنهم لم يتصوروا اللحظة ان كسر الحصار الأميركي الإسرائيلي ممكن، من غير ان يعني ذلك الاندفاع الى حرب التحرير من النهر الى البحر..
لقد تحول التغييب القسري لياسر عرفات عن هذه القمة سببا لحضور طاغ لفلسطين القضية، خصوصا ان انتفاضتها الباسلة قد أحاطت القمة بطوف من دماء شهدائها الأبرار الشهود على الإرهاب الإسرائيلي الذي اضطر حتى أصدقاء تل أبيب الى استنكاره والتنصل من »رعاية« بطله رمز التطرف الصهيوني والعنصرية المعادية للإنسانية أرييل شارون.
ومع هذا الحضور الطاغي لفلسطين القضية والشهادة والصمود تهاوت دعاوى التنازل والمساومة التي تريد ان تسترضي شارون، واستعاد الجهد العربي من أجل »سلام شامل مقابل انسحاب شامل حتى حدود 4 حزيران 1967« سويته.
ثم كانت المفاجأة ان »مبادرة الأمير عبد الله« ليست كما صوَّر المتهالكون، بل هي لا تخرج عن الثوابت العربية سواء في ما خص حقوق الشعب الفلسطيني في أرضه وفي دولته المستقلة وفي الالتزام بحق العودة (أو التعويض) للاجئين منه، وفقاً للقرار 194.
على هذا فقد يكون البيان الختامي لقمة بيروت أقوى نص رسمي عربي يصدر عن أية قمة شهدتها السنوات العجاف الأخيرة، بغير ان يكون إعلانا بالحرب. ان الصمود بذاته مطلب عزيز ومصدر قوة تفاوضية، لا سيما إذا كان أرضا مشتركة للعرب بأكثريتهم، ان لم يكن بإجماعهم.
وصدق الرئيس السوري بشار الأسد حين نسب بعض أسباب القوة في هذه القمة الى بيروت، عاصمة لبنان المقاوم، والى روحها العفية، والى عروبتها الأصيلة التي جعلتها »نوارة العرب«، منتداهم الفكري وشارعهم الوطني، ومكتبتهم ومطبعتهم وصحيفة الصباح، فضلا عن كونها مصيفهم ومشفاهم ومقهاهم ومصرفهم وحقل استثماراتهم، اذا ما أحسن أهله إدارة شؤونه.
ان لمسة من الفرح تغمر المشاركين في القمة لوجودهم في بيروت، ولعل الكثير منهم يريد تعويض قصوره (حتى لا نقول تخليه) في نجدة لبنان، يوم اشتدت حاجته الى يد العون يمدها اليه اشقاؤه كما مدتها سوريا (وبعض اهل الجزيرة والخليج).
ثم ان تجربة لبنان مع الاحتلال الاسرائيلي تشجع على اعتمادها فلسطين التي تجاوز شعبها، فتية ورجالاً ونساء، صور البطولة التي قدمها المجاهدون في لبنان، فضربوا هيبة الجيش الاسرائيلي الذي لا يقهر ومعه الجيش الثاني من وحوش المستوطنين، وضربوا ايضاً ادعاءات اسرائيل بأنها واحة الديموقراطية في هذا الشرق الغارق في عتمة التخلف والقهر.
فلسطين في بيروت: الصمود يستدعي الصمود، ويكسر الحصار، ويوفر للعرب أرضاً لكي يعلنوا حضورهم في غير الصورة التي أريد فرضها عليهم، بعد تفجيرات 11 أيلول.
والحمد لله ان مشكلات الحكم في لبنان وإشكالاته والمعارضات المتعددة والمتنافرة لم تعكس نفسها بشكل مؤذ على هذه القمة الناجحة، ببيانها الختامي كما بالنص الرسمي الاخير الذي سيسمعه العالم اليوم من ولي العهد السعودي، بعدما تحولت »أفكاره« الى مبادرة يتبناها العرب جميعاً برغم خلافاتهم الكثيرة والتي ستبقى بلا حلول، كالحالة الكويتية العراقية، الى إشعار آخر، حتى لا نقول الى »حرب أخرى«.

Exit mobile version