طلال سلمان

قمة فرنكوفونية في لبنان فلتكن تظاهرة ضد احتلال حرب

يقتضينا واجب المضيف أن نرحب بالقمة الفرنكوفونية التاسعة التي ستباشر أعمالها يوم الجمعة المقبل في بيروت، يسبقها ويمهّد لها الرئيس الفرنسي جاك شيراك بزيارة ودية توكيداً لامتنانه من جهة، ولطبيعة هذه المؤسسة »كمشروع قامت على إنشائه وتواصل رعايته الدولة الفرنسية بسلطتها ويرتبط مباشرة بالرئاسة والخارجية ودائرة القرار«.
ومن الطبيعي وقد قبلنا استضافة هذه القمة أن نضع جانباً، في هذه اللحظة على الأقل، تحفظاتنا السياسية على مبدأ انتساب لبنان إلى الفرنكوفونية، فضلاً عن استضافتها، ومدى الفائدة التي سيجنيها لبنان من الدخول في مؤسسة لا يمكن لطابعها الثقافي أن يخفي دورها السياسي اللازم والمؤثر في خدمة فرنسا مع »مستعمراتها« السابقة التي تشكل الأكثرية الساحقة من أعضائها الأصليين، بينما الأعضاء الجدد وبالتحديد الأوروبيون منهم من دول الكتلة الشرقية سابقاً هم »ضيوف شرف« ليس إلا…
إن فرنسا دولة صديقة، لا سيما متى كان الحكم فيها يحمل شيئاً من التراث الديغولي في الحرص على ممارسة استقلالية معينة عن »القرار الأميركي« وبالتحديد في ما يعني منطقتنا وبلادنا في القضية الفلسطينية ومجازر الاحتلال الإسرائيلي التي تكاد تكون يومية ضد شعب فلسطين الأعزل وأطماع هذا الاحتلال المعلنة في لبنان ومياهه بشكل خاص، ثم في ما يتصل بمخاطر الحرب الأميركية المعلنة على العراق والتي لم يعد ينقصها إلا الأمر بإطلاق النار لإنجاز التدمير الشامل لهذا الشعب العربي العظيم، ومعه وعبره للمستقبل العربي كله.
من هنا فإننا نفترض أن تكون هذه القمة في دلالة انعقادها الأولية تظاهرة سياسية دولية يحتشد فيها أصدقاء لبنان والعرب، ترفع الصوت بالاعتراض الجدي والعملي على ممارسات الاحتلال الإسرائيلي الوحشية ضد شعب فلسطين وتحرشاته الاستفزازية بلبنان لضمان الاستمرار في سرقة مياهه، كما تعلن رفضها للحرب الظالمة الثانية ضد العرب وهي التي قررتها الإدارة الأميركية تحت شعارات »صليبية جديدة« تكاد تحوّل حوار الحضارات إلى صراع ينتصر فيه الأقوى بالسلاح، بعيداً عن الثقافة والفكر والشراكة في المصالح والتعاون من أجل مستقبل أفضل للإنسان، وهي شعارات يفترض أنها تشكل إطار عمل الفرنكوفونية..
وإنه لمن محاسن الصدف أن تنعقد هذه القمة ذات الأهمية الاستثنائية لفرنسا، عشية الذكرى الثانية عشرة لإنهاء »التمرد« واستعادة الدولة في لبنان مؤسساتها من الجنرال ميشال عون، الذي لم يجد له من يناصره ثم من يستضيفه لاجئاً سياسياً إلا فرنسا ميتران… فهذه فرصة أخرى تؤكد فيها فرنسا شيراك عودتها إلى وعي »الحقائق اللبنانية«، وأخطرها العلاقات المميزة التي تربط بين لبنان وسوريا، والتي لا يمكن فصم عراها، والتي لا يؤدي تجاهلها إلا إلى النفخ في رماد الحرب الأهلية بين اللبنانيين.
ويذكر اللبنانيون لفرنسا دوراً طيباً في مساعدة دولتهم التي خرجت من الحروب الطويلة التي دارت على أرضها، مثخنة بالجراح، هزيلة الإمكانات، ويذكرون لرئيسها جاك شيراك عاطفته الحارة ومبادراته المتعددة لمد يد العون إلى لبنان، من منطلق وعيه لمصالح فرنسا في هذا البلد الصغير الذي لا يشكل بوابة المنطقة فحسب، بل ونوارتها ثقافياً وإعلامياً وهو ما زكى اختياره مضيفاً للقمة الفرنكوفونية كمصلحة فرنسية… دون أن نغفل بطبيعة الحال الصداقة الشخصية الحارة التي تربط الرئيس الفرنسي بالرئيس رفيق الحريري، وهي صداقة بلغت من العمق حد أنها زادت بشكل مؤثر من اهتمام فرنسا بلبنان ورعايتها لمصالحه وأحد أبرز عناوينها هذا الجهد الفرنسي البارز للمساعدة على تفريج الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعصف بلبنان، عبر العمل لإنجاح »باريس 2« بما يوفر للبنان تسهيلات وقروضاً مؤثرة بفوائد دنيا تخفف من العبء الثقيل لخدمة الدين العام والتي تستنزف جزءاً أساسياً من الدخل الوطني لهذا البلد الصغير.
هي قمة أصدقاء لبنان خصوصاً والعرب عموماً. لذا فإننا نتوقع منهم، وفرنسا على رأسهم، »موقفاً سياسياً« مسانداً يؤكد هذه الصداقة ويعززها عملياً، بدعم القضايا المحقة لهذه المنطقة المهددة بالاحتراق بنيران الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين المعززة الآن بنيران الحرب الأميركية على العراق ومعه وعبره وبعده على العرب جميعاً في مختلف أقطارهم.
وعلى سبيل المثال لا الحصر فإن القمة الفرنكوفونية تنعقد بينما تتوالى التهديدات الإسرائيلية ضد لبنان، شعباً ودولة، لمنعه من أن يسقي العطاش من أهله في المنطقة التي كانت تحت الاحتلال الإسرائيلي لاثنين وعشرين عاماً، من »مياهه«، وبالإفادة من عُشر حقه في هذه المياه التي تنبع في أرضه وتجري فيها ويريد الاحتلال أن يحرمه منها… مع الإشارة إلى أن هذا الاحتلال ظل وعلى امتداد عشرين عاماً »يبيع« اللبنانيين من مياههم لكي يرووا عطشهم، ولعله يريد أن يستمر في هذه التجارة الرابحة، سياسياً ومادياً.
إن القادمين إلينا هم بمجموعهم أصدقاء تجمعهم بنا الكثير من الروابط الإنسانية والمصالح المشتركة، بل إن بيننا كلبنانيين وبين الأفارقة منهم صلات رحم، وعلاقات ود وتعاون. فلقد عاش وما زال يعيش مئات الألوف من اللبنانيين في أقطار أفريقيا المختلفة، مع أهلها وبين أهلها، ولقد شاركوهم السراء والضراء على امتداد عقود طويلة، وهم ما زالوا يعيشون بينهم ويتحملون ما يتحملونه من مشاق ومصاعب، وقد أقاموا في العديد من أقطارها المدارس لتعليم النشء الطالع، وكثير منهم صاهروا الأفارقة وفي كل الحالات فإن آلاف اللبنانيين قد ولدوا في أفريقيا وحملوا وما زالوا يحملون هويات »بلادهم« الثانية، هذا قبل أن نصل الى حديث
الشراكة في مختلف مجالات الإنتاج، وإلى التصدي للتوغل الإسرائيلي الذي لم يحمل إلى أفريقيا إلا الطمع في سرقة ثرواتها وإلا محاولة زرع الشقاق بين شعوبها ومناصرة القوة الاستعمارية الجديدة الوافدة، الأميركية، ضد مصالح أهاليها الفقراء برغم غنى أرضهم.
هي قمة أصدقاء لبنان (والعرب) بغالبية المشاركين فيها.. ومن حق لبنان أن يكون شريكاً لفرنسا في الإفادة من هذه »التظاهرة الثقافية« سياسياً، خصوصاً وأنه مثل أهله العرب في موقع الضحية، وهذا يقربه أكثر فأكثر من غالبية المشاركين الذين هم بدورهم ضحايا الحقبة الاستعمارية الماضية، كما هم الآن ضحايا الصراع بين المستعمرين القدامى المتراجعين أمام الأمبريالية الأميركية الزاحفة برغبتها في الهيمنة بالقوة على أربع رياح الأرض.
ومؤكد أن هذه القمة لا تحظى بالرضا الأميركي، حتى مع يقين واشنطن أن قدرة المؤتمرين على الفعل محدودة.
في السياسة لا مجال للعواطف، فالمصالح هي المعيار.
ومع كل مشاعر الود والصداقة مع فرنسا ورئيسها الذي رحب به لبنان أكثر من مرة، فإن هذه القمة يفترض أن تعطي لبنان أكثر مما تأخذ منه، سياسياً.
ويجب أن يكون واضحاً لفرنسا أن استضافة لبنان القمة هي »جميل« لبناني يرد بها التحية بأحسن منها للرئيس شيراك، وليس »فضلاً« فرنسياً إضافياً يثقل عنق اللبنانيين ويضاف إلى ديونهم التي تنهك دولتهم وتعجزهم عن التقدم بقدر ما يستأهلون.

Exit mobile version