أما وقد انتهى »العرس« الذي أقامه لبنان للرئيس الفرنسي جاك شيراك، تحت عنوان القمة الفرنكوفونية، فلنتفحص الهدايا التي تبادلها »أهل الفرح« الذي أقيم، أخيراً، في ضيافة هذا البلد العربي، برغم تعدد ثقافاته، والذي لا تفقده همومه سحره الملغز وحيويته الفائقة التي يفيض بها »الشارع« بأكثر مما تعبّر عنه السرايات.
يمكن القول، بداية، إن »العرس« كان، على كثافة الحضور وتعدد الأمزجة والأهواء واللغات والتقاليد، ناجحاً كمهرجان أممي تتسلل فيه السياسة عبر الثقافة وحوار الحضارات، وتصطدم فيه الرغبة في التعاون بضيق ذات اليد عند غالبية المشاركين، وبالكاد يمكن تحرير التصور لمستقبل الشراكة من عقد الماضي بين دولة الاحتلال ومعظم »أعضائه« ال55 من الدول التي كتبت استقلالها بدمائها.
لقد أهدى شيراك لبنان هذه القمة، التي كانت المشاركة إلى ما قبل سنوات مصدراً لاتهام من يقبلها في وطنيته… أما اليوم فإن قائداً للمقاومة الوطنية الإسلامية مثل السيد حسن نصر الله لم يجد ما يمنعه من حضور حفلها الافتتاحي، مؤكداً »التحول« الذي طرأ بداية على دور فرنسا في المنطقة ومن ثم على »وظيفة« هذه المنظمة الأممية التي ظلت قيادتها الفرنسية تحاول توريطها في سياسة بلا دنس ثم تخاف عليها من الانفراط فتبعدها عمّا قد يبعثر المتلاقين في إطارها الهش أيدي سبأ.
على أن لبنان أفاد منها ثقافياً وسياحياً وسمعة أكثر مما أفاد منها سياسياً، أولاً بسبب نقص السياسة فيها، ثم لأن السياسة (ولو محدودة) هي لصاحب الامتياز: الفرنسي.. ولعل لبنان هنا قد »تنازل« قليلاً في »إعلان بيروت« عن التوكيد على بعض ثوابته السياسية حتى لا يُحرج فيخرج الحريصين على عدم إغضاب الولايات المتحدة الأميركية، أو المتحسبين لرد الفعل الإسرائيلي إذا هم تورطوا في إدانة ممارسات الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين، وبعض هذه الممارسات الدموية المريعة جرى على مرأى المشاركين ونقلته الفضائيات الى حجرات نومهم فضلاً عن الصالونات.
وهكذا فقد خلا »إعلان بيروت«، كما خلت معظم وثائق المؤتمر، في ما عدا تلك التي قدمها لبنان عبر كلمات رئيس الجمهورية أو عبر المناقشات في الجلسة المغلقة، من أي ذكر لفلسطين القضية، بشعبها والسلطة، بالاحتلال المجدد والشامل لكامل الضفة الغربية بما فيها القدس وقطاع غزة حتى نقاط الشرطة المصرية على »الحدود«.
لم يكن جاك شيراك في بيروت، ووسط حشد الفرنكوفونيين، مضطراً لأن يكون »عربياً« كما تبدى في بعض مواقفه التي أعلنها في القدس المحتلة كرد فعل غاضب على إهانته من قبل الشرطة الإسرائيلية، قبل سنوات، أو مثل تلك كان يعلنها في أعقاب زيارات ياسر عرفات، بالذات، أو بعض القيادات العربية »المتطرفة« له في مكتبه بباريس.
بل إن جاك شيراك نفسه لم يكن مضطراً لأن يعلن في قمة بيروت، أو على هامشها، أو في التعقيب على »إعلان بيروت«، مثل ما أعلن بعد ساعتين من اختتام أعمالها، وسفره إلى دمشق حيث التقى الرئيس السوري بشار الأسد.
إن مسافة مئة كيلومتر كافية لاستذكار ما تم نسيانه أو إغفاله في قمة لا يجتمع المشاركون فيها إلا على الحد الأدنى من التذمر من السياسة الأميركية وبالتالي من ممارسات الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، التي باتت جزءاً لا يتجزأ من »الحرب الأميركية على الإرهاب العالمي« والتي يشترك في قيادتها الآن جورج بوش وأرييل شارون.
إن حوار السياسات أضيق أفقاً بما لا يقاس من حوار الثقافات، والخطأ في الأولى مكلف، بينما هو في الثانية »اجتهاد« قد يصل أحياناً إلى حدود الترف.
* * *
لا شك في أن القمة الفرنكوفونية قد أفادت لبنان معنوياً، بأن أعادته إلى المسرح الدولي، كأرض لقاء وصاحب دور أو »رسالة« كما وصفه البابا يوحنا بولس الثاني عندما زاره قبل خمس سنوات.
ومع أن المؤتمرين قد رأوا في »التضامن مع اللغة والثقافة العربيتين« توكيداً »للبعد الشمولي للفرنكوفونية«، فإن انعقاد القمة في بيروت كان شهادة دولية لموقع لبنان المميز وعاصمته النوارة بيروت على الخريطة الثقافية العربية والدولية.
ثم إنها كانت فرصة لتقديم »صورة« جميلة عن »وحدة لبنان«، الحكم والشعب… فلم يحدث أن ساد مثل هذا الجو الاجتماعي الحميم بين أطراف الحكم في لبنان، طوال السنوات الماضية… كما أنه لم يحدث أن احتشد كل هؤلاء القياديين والمرجعيات الدينية والسياسية، الموالية والمعارضة والبين بين، في صورة واحدة، كما حدث صباح يوم الجمعة الماضي، ولمناسبة يصعب على أي منهم الغياب عنها كما يصعب عليه استثمارها لنفسه.
على أن هذه الصورة الجميلة لا تعكس الواقع تماماً…
فاليوم، تحديداً، وبعد أقل من 24 ساعة على اختتام أعمال القمة، سيعود اللبنانيون إلى همومهم الثقيلة، وبين عناوينها الاقتصادية مسلسل الإضرابات التي ستتوالى شاملة قطاعات عدة، كما ستعود الى الواجهة مسألة إقفال محطة أم. تي. في. التلفزيونية وموقعها على خريطة الحريات الإعلامية ومدى استقلال القضاء عن السلطة وسياساتها المغرقة في محليتها.
إن الصورة الأمبراطورية للعشاء في السراي لا تعكس الواقع الاقتصادي الاجتماعي في لبنان.
وصورة الحشد اللبناني بطوائفه الكثيرة وقد انتظم »صفاً مرصوصاً« في مواجهة ضيوفه المتعددي الأعراق والألوان والأعلام والقوميات والاثنيات والأهواء، لا تعكس وحدة صلبة أو اتحاداً أو جبهة سياسية ترتكز على برنامج سياسي واحد برغم تعدد الاتجاهات.
لقد كانت القمة »ضيفاً« على بيروت، لا هي تنتمي إليها حقيقة ولا بيروت صاحبة دور فاعل في توجهاتها واستهدافاتها السياسية… ولذا فقد غلبت المجاملة على الموقف، وهي في بعض اللحظات قد استوجبت تغييبه أو التخفيف منه منعاً للإحراج.
لم تكن بيروت، بهويتها الأصلية وبهمومها الأصلية، في المؤتمر.
كانت مضيفاً للصديق جاك شيراك، رئيس فرنسا، ولمؤتمره… رداً لجميل سابق، وسعياً إلى تطوير آفاق هذه الصداقة المفيدة للبلدين حاضراً ومستقبلاً.
على هذا فقد تغاضى لبنان الرسمي عن إغفال ذكر فلسطين، كقضية، مكتفياً بالإشارة الغامضة إلى العملية السلمية والقرارات الدولية، مع استذكار اللاجئين الفلسطينيين وحدهم من دون بلادهم (الأصلية).
أما العذر ففي القول بأن الإشارة إلى »المبادرة العربية« التي أقرتها قمة بيروت، قبل بضعة شهور، يجبّ كل التفاصيل، ويحتوي كل ما يراد قوله.
كذلك فقد أسقطت في غفلة من كتاب البيانات أية إشارة مباشرة الى الاحتلال الإسرائيلي وممارساته، بل إن كلمة »إسرائيل« لم ترد مطلقاً، مع أن القمة قد انعقدت قريباً من فوهات المدافع التي تكاد تدمر كل فلسطين.
* * *
إنها قمة فرنسية استضافها لبنان، وليس له فيها إلا حقوق المضيف…
إنها تعبّر، في بعض جوانبها، عن عرفان لبنان بجميل فرنسا سياسياً في »تفاهم نيسان«، وفي مساعداتها الاقتصادية، سواء تلك التي قدمتها مباشرة، أو هذه التي تسعى بكل جهدها وثقلها لتأمينها عبر »باريس 2« الذي لم يغفل الرئيس جاك شيراك ذكره في أي كلمة قالها.
لقد نجح لبنان كبلد مضيف في استقبال هذا الحشد الكبير من دول العالم، ورحب بالجميع، وأكثريتهم من الفقراء مثله بل ربما أفقر منه، ولم يرتكب معها من الأخطاء مثل ما ارتكب مع أشقائه الفقراء في القمة العربية.
ونجحت فرنسا شيراك في الإيحاء بأن لها، خارج الاتحاد الأوروبي، منظومة من الدول التي تتأثر بها، بهذا القدر أو ذاك، وفيها عرب وأفارقة وآسيويون وكنديون وجزر تائهة في المحيطات.
وبقي أن ننتظر النتائج العملية في باريس 2، التي لن يزركش قاعات اجتماعاتها مثل هذه المجموعة الهائلة من الأعلام التي يحتل الأحمر مساحة كبرى فيها إلى جانب الأخضر والأصفر… فأعلام الدول الغنية أكثر رصانة، تماماً مثل كلام رؤسائها. أما خبراؤها الاقتصاديون فصمتهم مخيف أكثر من حديثهم ولو تبدى جارحاً أحياناً.
* * *
نزل لبنان عن »القمة« مطمئناً إلى حوار الحضارات، وها هو يعود إلى »قاعه« لتستأنف المعارضة مع السلطة الحوار حول الحوار.
أما شيراك فقد مضى مستبشراً بنجاحه الكبير في هذا البلد الصغير بمساحته والهائل القدرة على التكيّف مع »الثقافات« و»السياسات«.
