طلال سلمان

قمة غياب قرارات معلقة

هو إنجاز تاريخي أن تحافظ الأنظمة العربية المختلفة إلى حد مقاطعة بعضها البعض سياسياً واقتصادياً وثقافياً، على تقليد عقد القمة في موعدها السنوي، دورياً، وفي مختلف العواصم، بحسب الترتيب الأبجدي لأسماء دولها… وإن كان مجرد الالتزام بالموعد لا يعني بالضرورة حضور الجميع، كما لا يعني حضورهم الاتفاق ولا يعني اتفاقهم تنفيذ ما اتفقوا عليه وأعلنوه في بيانهم الختامي مرفقاً بصورتهم مبتهجين..
ومع أن القمة الجديدة ستضم أعضاءً جدداً، غير القادة الأبديين، إلا أن هذا التطور لا يعني بالضرورة اختلاف النتائج عن تلك التي انتهت إليها القمم السابقة والتي بقيت حبراً على ورق، خصوصاً وأن حفلات العناق بين القادة تقليدية ولا تعني بالضرورة تعديلاً في المواقف في اتجاه تحقيق المشترك من الأهداف بين الدول المجتمعة.
وفي الأصل فإن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر هو من ابتدع القمة الدورية، وكان الهدف الأساس هو استيلاد الكيان السياسي للشعب الفلسطيني، وتعزيز جبهة المواجهة مع العدو الإسرائيلي، وكذلك الجبهة المساندة للجم اعتداءاته المتكررة على دول الجوار، ولبنان منها… وهكذا تمّ استيلاد منظمة التحرير الفلسطينية لتجتمع فيها الفصائل المختلفة وتصبح «الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني» ولها مقعدها في الجامعة العربية، وبالتالي في القمة. وفي السياق ذاته تمّ اتخاذ القرار بتزويد لبنان (بوصفه دولة مساندة) بما يمكنه من صد الاعتداءات الإسرائيلية.. وكان من ضمنها الرادار (وقد نُصب في جبل الباروك) وصواريخ كروتال التي فجّرتها السمسرة والرشى من قبل أن تصل إلى الجيش اللبناني… بينما تولت إسرائيل تدمير الرادار خلال نصبه فوق قمة أرز الباروك…
على أن القمة العربية فقدت مبرّر وجودها بعد انفراد الرئيس أنور السادات بالصلح مع العدو الإسرائيلي.. وبات على الجامعة العربية ذاتها أن تجد لها مقراً خارج القاهرة، وهكذا ارتحلت إلى تونس مؤقتاً.. ثم أعيدت إلى القاهرة بعد اغتيال السادات، واستقرت في مقرها، وغير بعيد عنها سفارة الكيان الصهيوني، وقد اختلفت الأحوال أيما اختلاف عنها عند استيلادها في العام 1945 وكان لبنان بين المؤسسين.
سقط الهدف الأول والأخطر لمؤسسة القمة العربية، لكن الموعد السنوي ظل معتمداً، والمبدأ الدائم ظل يحكم الحضور والغياب (بمن حضر) والنتائج التي صارت روتينية، يكتبها «الخبراء» ويختلف حول صياغاتها الوزراء وينسف ما قد يفهم منها خطأ الملوك والرؤساء..
صارت المسألة، بداية وانتهاء، النجاح في عقد القمة في موعدها، أما القضايا المعروضة، وهي في الغالب موضع خلاف ثنائي أو ثلاثي أو رباعي إلخ، فيتم ترحيلها إلى القمة التالية، وهكذا حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً..
مع ذلك فإنه لإنجاز تاريخي أن تحافظ الأنظمة العربية المختلفة إلى حد مقاطعة بعضها البعض، سياسياً واقتصادياً وثقافياً، على تقليد عقد القمة في موعدها الدوري، ولو «بمن حضر» كما جرى في بغداد العام الماضي.
وإنها لشجاعة من الكويت أن تستضيف القمة وهي تعرف أن شركاءها في مجلس التعاون الخليجي قد لا يحضرون جميعاً، أقله على مستوى الصف الأول. وما بين دول هذا المجلس من خلافات تتجاوز القمة وفولكلور الاحتفال بانعقادها. كذلك فإن العراق يحضر وهو بلا رئيس للدولة، ومصر تحضر برئيس انتقالي، وليبيا برئيس بلا شرعية (هذا إذا ما حضر من يستطيع الادّعاء أنه «الرئيس»)، والجزائر تغيب، وإن حضرت، (بسبب غياب رئيسها المريض والمصر على انتزاع ولاية جديدة مستفيداً من خلافات الورثة المفترضين)… أما سوريا التي غيّبت دولتها عن الجامعة فقد تمّ التبرع بمقعدها ـ وهي بين المؤسسين للجامعة ـ إلى معارضة متعددة الرأس ورموزها جميعاً في المنافي المذهّبة. وأما لبنان فرئيس يبدأ العد العكسي لانتهاء ولايته في يوم انعقاد القمة بالذات.
لا يهم أن تنعقد القمة وهي ناقصة النصاب.. فلا أحد ينتظر منها قرارات مصيرية، أو حتى مؤثرة، لا في العلاقات العربية ـ العربية، ولا في الموقف من القضية الفلسطينية التي اختارت قيادة منظمتها واشنطن بالبيت الأبيض فيها مرجعية وحيدة لشؤونها مع وعيها بأن الزمن الإسرائيلي يبيد ـ وعبر منهج مدروس ـ القضية المقدسة. وقد وجد القادة العرب الذريعة لتبرئة ذمتهم من دم هذا الصديق: أهل رام الله (وغزة) المنقسمين على أنفسهم، المفلسين سياسياً ومالياً، أدرى بشعابها!
المهم أن الشكل مستوفى: الأعلام المزركشة تغطي الشوارع، والمطار مزدان بعبارات الترحيب، والقاعات المذهّبة جاهزة، والبيان الختامي قد عكف الوزراء على إفراغه من المعنى عبر استخدام العبارات التي تقول «لا شيء»، وصور اللقاءات الجامعة أو الثنائية والثلاثية والرباعية جاهزة للبث إلى أربع رياح الدنيا، وكل من تضمه يشع وجهه بابتسامة تليق بقمة الاتفاق على الاختلاف حول كل البنود، على أن تموّه الصياغات هذا الاختلاف وتزركشه بصور القبلات المتبادلة بين أهل القمة، حتى ولو كانوا من مستوى أدنى مما تتطلبه «القمة».
لعل الدوحة تستطيع التباهي، الآن، أنها كانت أنجح من «استدعى» القادة العرب إلى القمة، أية قمة تقررها وتحت أي عنوان تبتدع، مع الاستعداد لتأمين الفيزا الإسرائيلية للرئيس الفلسطيني إذا تعذر عليه الحصول عليها.
هل ينفع التمني في أن تكون هذه القمة بكل ما سبقها وما سوف تحفل به وتنتهي إليه، نقطة تحول في مسار القمم بحيث تكون ـ مستقبلاً ـ مركز القرار العربي لاستنقاذ الغد العربي وليست مناسبة فولكلورية لادّعاء الاتفاق بينما الكل مختلف مع الكل ولا فرصة لأي جهد عربي مشترك؟!

Exit mobile version